الخرطوم وواشنطن.. دبلوماسية الرمال المتحركة
الخرطوم ترغب في التحول بعلاقاتها مع واشنطون من نقطة العداء والخصام إلى نقطة تبادل المصالح المشتركة
تشكك الخرطوم كثيراً في نوايا واشنطون حيالها وترى أن الأخيرة تعمد إلى تحريك المرمى كلما همّت بتسجيل الهدف
جرى تخفيف الحظر الامريكي أخيراً بما يسمح بتصدير أجهزة الإتصالات الشخصية وأجهزة الراديو والبث وتم فتح متاجر قوقل وآبل
كلينتون فرض حصارا اقتصاديا على السودان وقصف مصنع الشفاء، وبوش وضع السودان في “محور الشر” وجرى توسيع الحصار ضده
تعتقد الخرطوم أن السانحة مواتية أكثر من ذي قبل لحصد نقاط في (الرانك) الخاص بعلاقتها واشنطن
عندما ألغت الانقاذ تأشيرة دخول العرب والمسليمن الى السودان، برزت الشكوك الأمريكية، على اعتبار أن الخطوة تُمهِّد لإيواء العناصر المتشددة
مصطفى عثمان: لا نرى مسوغات ومبررات مقنعة لفرض العقوبات الأمريكية على السودان
الخرطوم: مقداد خالد
منذ أيام أربعة، والسودانيين ينعمون بخدمة (قوقل بلاي) للهواتف النقالة، وبات في مقدور قاطني البلاد حمل أجهزة جوال أمريكية الصنع، وتحديث وتحميل التطبيقات في الهواتف التي تعمل على نظام التشغيل (اندرويد)، من دون الحاجة إلى اتباع سلسلة طويلة من أساليب التحايل أو اللجوء إلى مواقع أقل جودة. ويتم ذلك كله إثر قرارات صادرة عن إدارة الرئيس باراك اوباما بإخراج التقانة الأمريكية من قائمة حظر طويلة تفرضها الولايات المتحدة الامريكية على مستخدمي شبكة الانترنت في السودان.
وبموجب هذه التحولات في المواقف الأمريكية تطمع الخرطوم، في مزيد من خطى التطبيع مع واشنطون بما يفضي في المحصلة النهائية إلى الغاء العقوبات الامريكية أو خفضها إلى الحدود الدنيا في أسوا التقديرات.
آن الأوان
يعتقد المسؤولون في السودان أن السانحة مواتية أكثر من ذي قبل لحصد نقاط في (الرانك) الخاص بعلاقاتهم مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويحصن أولئك القادة اعتقاداتهم بالتحول الجذري الذي اجترحته الولايات المتحدة مع دول كان يتم الزج بها مع السودان في قوائم الشر الدولية، إذ رفعت إدارة الرئيس اوباما كوبا من قوائمها السوداء بالكلية، وألغت جميع العقوبات الصادرة بحق هافانا، متجاوزة بذلك إرثاً طويلاً من العداء الذي وصل حدّ الأحتراب.
ذات الوضع ينطبق تقريباً على أيران، وذلك في اعقاب التوصل أخيراً إلى تسوية مع طهران بشأن برنامجها النووي في مقابل فك عزلة دولة الملالي والسماح لها باجراء التعاملات الاقتصادية التي كانت محرومة منها بفعل الحظر الاقتصادي الذي تفرضه عليها الولايات المتحدة.
تفاؤل واضح
عبّر رئيس القطاع السياسي بحزب المؤتمر الوطني الحاكم، د. مصطفى عثمان إسماعيل، عن تفاؤله بإمكانية أن تشهد علاقات الخرطوم وواشنطون اختراقاً في الفترة المقبلة، لا سيما وأن خطى التقارب بين العاصمتين أخذت الطابع الثنائي وبات من الواضح أن كلا الطرفين يرغب في تعزيز العلاقات المشتركة وردم الهوة التي بدأت في التناقص فعليا.
يقول د. مصطفى الذي شغل منصب وزير الخارجية في وقتٍ سابق، وشهدت فترته جهوداً جبارة لتقليل العزلة المفروضة على بلاده دولياً، يقول لـ “الصيحة”: (نرغب في التحول من نقطة العداء والخصام إلى نقطة تبادل المصالح المشتركة) ومن ثم يطالب بأمثلية في التعامل أسوة بما جرى لكوبا وإيران، ويستبين ذلك في قوله: (نرغب في ذلك التحول استرشاداً بالقطيعة التي كانت بين واشنطون وطهران من جهة وبين واشنطون وهافانا من جهة ثانية، وصلت حد إطلاق الصواريخ، لكن ذلك أصبح حالياً من الماضي، حيث عادت المياه إلى مجاريها، وجرى تبادل افتتاح السفارات) ومن ثم اسقط ذلك على الحالة السودانية التي يرى أنها أحق بالمعاملة التفضيلية إذ قال: (لا نرى ان هناك اي مسوغات ومبررات مقنعة للقطيعة او لفرض العقوبات الامريكية على السودان).
كثير من الواقعية
أحاديث عثمان المتفائلة ليتم صبغها في الواقعية تستلزم وضعها إلى جنب مع تصريحات لوزير الخارجية السابق، علي أحمد كرتي، وصف خلالها علاقات بلاده والولايات المتحدة بأنها متأرجحة، ومما قاله كرتي يومذاك: (هناك بعض العقبات التي تواجه عملية تطبيع العلاقات بين البلدين وإن كانت الإدارة الأمريكية برئاسة أوباما، تحاول تطبيع العلاقة مع السودان). وتابع: (هناك أطرافاً ومنظمات ومجموعات ضغط تعمل على تعكير صفو التوجه الجديد للإدارة الأمريكية نواحي السودان).
عقبة رئيسة
تشكك الخرطوم كثيراً في نوايا واشنطون حيالها، وترى أن الأخيرة تعمد إلى تحريك المرمى كلما همّت بتسجيل الهدف المتمثل في شطبها من القوائم الامريكية.
تستدل الخرطوم في ذلك بتجديد العقوبات الامريكية بحقها سنوياً، ذلك بالرغم من جهود عديدة بذلتها يكفي أياً منها طبقاً لمنظورها في مغادرة هاتيك القوائم، وتذكر في هذا السياق تعاونها غير المحدود في ملف الإرهاب، وإنجازها لاتفاق السلام الشامل “نيفاشا” الذي أنهى أطول حرب في القارة الافريقية، والتوقيع مع حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي على اتفاقية أبوجا، كما أوفت الخرطوم بالتزاماتها كاملة إزاء قيام استفتاء حق تقرير المصير لابناء جنوب السودان ومن ثم اعترفت بالنتائج، وكانت الدولة الأولى التي تسجل اعترافها بدولة جنوب السودان.
بل واسهمت واشنطون في تمرير كثير من القرارات التي استهدفت الحكومة السودانية في مجلس الأمن الدولي، ووضعت اللوم على الخرطوم في إفشال كثير من الاتفاقات مع الحركات حاملة السلاح، وهو ما يثير استياء صقور حكومة الخرطوم ممن يدعون صراحة لعدم تقديم اية تنازلات مستقبلية على أمل إجراء عمليات تطبيع بين إدارتي اوباما والبشير.
كذلك لا يمكن إغفال الأدوار التي تلعبها واشنطون ولا تسر الخرطوم، وذلك فيما يخص دعم الأولى للمحكمة الجنائية الدولية والتي تراها الثانية شيطانا مريدا موجها نواحي القادة الافارقة.
وجهة النظر الامريكية
يمكن تلخيص وجة النظر الامريكية حيال السودان في تصريحات القائم بالاعمال الامريكي، جيري لاينر القائلة: (العلاقة بين الحكومتين اتسمت بالتوتر لسنوات عديدة، هنالك مشكلة عدم الثقة، ولكن المحرك الاساسي لهذا التوتر هو العنف والحرب داخل الحدود السودانية والتي نتج عنها مقتل ونزوح الكثيرين).
جهود شعبية
منذ فترة تقود جهات شعبية حوار مع القائمين بأمر سفارة واشطون في الخرطوم، للتعريف بكمية العنت الذي يلاقيه الأهالي من جراء العقوبات الامريكية.
وفي فترة سابقة اقرت الحكومة السودانية إن غياب شفرة امريكية يحول دون تشغيل جهاز حيوي لمرضى القلب بمستشفى الخرطوم، كما ظهرت غياب تقنية الشفرة في موقفين آخريين أولهما حين أعتزمت الحكومة تشغيل مصفاة هجليج النفطية، وثانيهما حين أرادت إدارة آلات مصنع سكر النيل الأبيض.
وحتى فترة قريبة كانت معظم التقانات محرمة على السودانيين، كذلك المنح والبرامج الدراسية الأمريكية مما يزيد البون العلمي بين متخرجي البلاد ونظرائهم في بقية العالم.
كذلك فإن الحصار الاقتصادي حرم السودان من فرص الإفادة من التمويل الممنوح عبر صناديق ومؤسسات دولية، وحال بينه وبين جذب استثمارات قادرة على تحريك عجلة اقتصاده الذي يعاني منذ قرر الجنوب الانكفاء على نفسه وآباره النفطية في العام 2011م وكذلك فإن المقاطعة الامريكية أجبرت الخرطوم على اتخاذ سكك شديدة الوعورة للحيلولة دون حدوث انهيار، وفي هذا الصدد اقرت الحكومة خطة تقشفية قاسية اتبعت خلالها خطة علاجية للبنك الدولي وذلك على أمل الحصول على تسهيلات ومنح تساعد الاقتصاد على التعافي.
وبالعودة إلى المبادرات الشعبية، نجد أن النشاط الكثيف للتعريف بانعكاسات الحصار الاقتصادي على المواطن السودان، قاد الولايات المتحدة إلى رفع الحظر عن المعدات الطبية والزراعية وأخيراً عن التقانة الامريكية التي بات في مقدور مستخدمي الهواتف النقالة والحواسيب الاستفادة منها.
تغليب المصالح
يذهب جلّ الخبراء السودانيين إلى ضرورة توجه بلادهم نواحي تبادل المصالح مع الولايات المتحدة عوضاً عن المطالبة بإلغاء العقوبات أسوة بما فعلته مع دول أخرى ويحذرون بشدة من اتيان تنازلات دون وضع ثمن في مقابلها.
ويعد ملف مكافحة الإرهاب ملفاً بالغ الحساسية ويمكن للخرطوم استخدامه لخدمة مصالحها لا سيما وأن الولايات المتحدة ذاهبة نواحي تقوية الإسلام الصوفي على حساب الجماعات المتطرفة. كما أن “الصمغ العربي” كمنتج سوداني ظل طوال الوقت خارج منظومة العقوبات يمكن استخدامه في لصق علاقات البلدين.
أما إن ارادت الخرطوم حصاد كل النقاط فما عليها سوى التوجه نواحي خلق سلام شامل ومستدام، يستتبعه استقرار سياسي مأمول.
تاريخ أسود
ساءت علاقة السودان مع الولايات المتحدة، منذ وصول الرئيس عمر البشير للحكم عن طريق المجنزرات في منتصف العام 1989م، وقتذاك أبدت واشنطون بالغ قلقها من وصول نظام ذو طابع اسلامي إلى الحكم في دول ذات موقع استراتيجي ويمكنها التأثير على جوارها والمنطقة.
وحين عارض السودان الموقف الخليجي والدولي، خلال “حرب الخليج”، وبدا أن السودان اقرب ما يكون إلى النظام العراقي بقيادة الراحل صدام حسين الذي زج بكامل المنطقة في منقطة حرجة حين قرر غزو الكويت في العام 1990م.
وبالطبع زادت شكوك الولايات المتحدة حيال السودان في اللحظة التي الغى معها تأشيرة الدخول لأجل جذب الاستثمارات كما كان يروج وقتذاك، بيد أن واشنطون اعتبرت الخطوة تمهيد لإيواء عناصر متشددة ومتطرفة مع توفير حاضنة للاسلاميين من معارضي الانظمة السياسية في بلدان العالم المختلفة.
وفقط أخذ العداء طابعا رسمياً حين أسس عرّاب الإسلاميين في السودان، د. حسن عبد الله الترابي، المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي وذلك في العام 1991م، وهو ما فسرته امريكا بأنه محاولة جدية لجمع المناوئين لسياستها على صعيد واحد فكان أن تم وضع السودان في قائمة الدول الراعية للارهاب ابتداءً من العام 1993م.
وفي العام 1995م، دخل الصراع الأمريكي السوداني منحنى جديد حيث جرى اتهام الخرطوم بأنها الضالع الرئيس في محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك اثناء القمة الافريقية في العاصمة الاثيوبية أديس أبابا.
وعليه شرعت واشنطون عملياً في العمل على الإطاحة بنظام الحكم في الخرطوم عبر تبني سياسة دعم عسكري للمعارضة المسلحة وفتح جبهات قتالية جديدة في شرق البلاد انضافت إلى جبهة شديدة الاشتعال في جنوب السودان (دولة جنوب السودان حالياً) فيما اصطلح عليه يومذاك بعملية “الأمطار الغزيرة”.
واستطاعت الخرطوم بكثير من العنت وبفاتورة باهظة امتصاص “الأمطار الغزيرة” التي هطلت في العام 1997م. ولكن إدارة الرئيس الامريكي بيل كلينتون حصاراً اقتصادياً على السودان وذلك بموجب القانون الأمريكي للطوارئ الإقتصادية وإثر ذلك جمدت الاصول السودانية وحرمت الخرطوم من كافة اشكال التعاون والاستثمار مع الشركات الامريكية.
وفي لحظة قاتمة على الدولة ذات النجمات الخمسون، جرى خلالها تفجير السفارة الامريكية في كل من عاصمتي كينيا وتنزانيا، نيروبي ودار السلام على التوالي، اطلقت اسلحة واشنطون صواريخها في اغسطس 1998م لتدك “مصنع الشفاء” المنتج للأدوية والعقارات، بتهمة وجود صلات بين المصنع ومنظومة القاعدة لأجل انتاج مواد كيماوية مميتة، وهو ما رفضته وترفضه الحكومة السودانية مصحوباً بدعوى لدفع تعويض مجزي جراء التأثيرات الصحية الكبيرة التي خلفها تدمير الشفاء.
بداية مختلفة
حين وقعت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر في قلب الولايات المتحدة، صك الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش مصطلح “الحرب على الأرهاب” وبالتالي تولدت سرت مخاوف من أن تشمل السودان، الغضبة الامريكية التي دخلت بموجبها قوات المارينز لأفغانستان.
ولكن ذلك لم يحدث لكون الخرطوم وبكل الشهادات الامريكية تعاونت تعاوناً غير مسبوق مع الولايات المتحدة الامريكية في ملف مكافحة الأرهاب، ولكن ذلك كله لم يشفع له بمبارحة القوائم السوداء.
الأمل قائم
بالرغم من تعقيدات السياسة، فإن الأمال منعقدة على إدارة الرئيس اوباما قبيل ترجله القريب، في أن يتوصل الى صيغة ترفع العبء عن السودان، لا سيما وهو في طريقه إلى زيارة تشمل نيروبي وأديس أبابا وقد تتطرق لمشاكل السودانيين. بيد أنهة على كل من يرسل هذه الأمنيات الحذر من كون السياسات الامريكية تصنع في مطابخ قد تكون بعيدة كل البعد عن البيت الأبيض وما يريده السودان.
الصيحة .. الخرطوم: مقداد خالد