أكاد أجزم أن جميع النساء اللاتي كن ينتظرن المصلين بعد أداء صلاة العيد في أحد مساجد مدينة الصحافة جميعهن أجنبيات، عشرات النساء والأطفال هجمن على جموع المصلين بعد أداء الصلاة ولم تكن ولا واحدة منهن سودانية. مجرد نظرة عابرة لهن تكفي للجزم بأن أولئك النساء أجنبيات، قادمات من النيجر ونيجيريا وتشاد ودول أفريقية أخرى.. والسلطات تعلم هذا جيداً، نعم تعرفه وتعرف أكثر من هذه المعلومات بالطبع بل إن الكثير من الناس يعرفون طبيعة عمليات التسول وعصاباته وترتيباته في الخرطوم حيث يتم توزيع المتسولات وترحيلهن بعربات الدفار في الصباح الباكر على مواقع عملهن في الأستوبات والشوارع بمدن العاصمة وفي آخر الليل يتجمعن في مجموعات ببعض النقاط التي يتم الاتفاق عليها بمحاذاة ما يسمى بـ(شارع الهوا) جنوب الخرطوم لتأتي تلك الدفارات وتنقلهن إلى مجمعات سكنية عشوائية جنوب الخرطوم حيث يقضين ليلتهن هناك على أسِرَّة و(عناقريب) يتم استئجارها لهن في تلك المعسكرات العشوائية بواسطة عصابات محترفة نظير مبلغ من المال.
وبرغم حسم الجدل التشريعي لمكافحة التسول مؤخراً باعتماد قانون معالجة السائل والمتشرد ومكافحة التسول المنظم، إلا أن المعضلة الكبيرة تتمثل في كلفة تطبيق هذا القانون فسجن المتسولين يلقي بأعباء اقتصادية على الدولة ويكلفها مبالغ كبيرة كما أن إبعاد المتسولين الأجانب من البلاد مع عدم التمكن من السيطرة على حدود البلاد الغربية ليس أكثر من النفخ في (قربة مقدودة)، وهذه المشكلة موجودة بنفس المستوى في حدود البلاد الشرقية والجنوبية أيضاً .السجن خيار مكلف والإبعاد خيار غير مجد ولا يوجد أي خيار قانوني ثالث يمكن تنفيذه دون التعدي على تشريعات وأخلاقيات حقوق الإنسان .
التسول المنظم مشكلة كبيرة والسلطات التي لا تمتلك خيارات أخرى رادعة في معاقبة المتسولين الأجانب أنفسهم بأكثر من الطرد أو السجن المحدود بإمكان هذه السلطات التركيز فقط على ملاحقة من يتاجرون بهؤلاء البشر وتشديد العقوبات على العصابات والجهات التي تقوم بإحضارهم والإشراف على عملهم واستغلالهم.. قانون التسول نفسه خرج من بين فكي الجدل الفقهي بصعوبة كبيرة لكنه خرج واهناً وممضوغاً بالمرونة المتراجعة لأن ملاحقة ومعاقبة السائل في ظل الضغوط الاقتصادية والمعيشية التي يعانيها المجتمع وانتشار الفقر ليست مسألة سهلة التطبيق في مجتمع إسلامي لا تسمح أخلاقياته الدينية والإنسانية بقهر السائل، لكن المعالجة السليمة والتي يمكن تطبيقها دون أي حرج شرعي أو أخلاقي هي ملاحقة عناصر ورؤوس تلك العصابات بعقوبات تصل حتى لدرجة الإعدام أو السجن المؤبد ومصادرة كل ما يمتلكه أي مدان بالتورط في هذا النوع من الإعمال .
وجود الآلاف من المتسولين الأجانب وتزايد أعدادهم بدلاً عن تناقصها بعد إجازة القانون يعني أن هناك تقصيرا كبيرا في تطبيق هذا القانون وذلك بسبب الشعور بنوع من الحرج من جانب الجهات التنفيذية في التعامل مع هذه الظاهرة بالشدة والغلظة القانونية المطلوبة.
ظاهرة التسول المنظم تضيع على المحتاجين فرصة الحصول على نصيبهم من مال المنفقين والمتصدقين، بعد أن تحول السائل إلى مشتبه به بممارسة الاحتيال فضاع حق السائل الحقيقي والمحروم وامتنع الكثيرون عن ممارسة فضيلة الإنفاق والتصدق.