مشكلة السودان حاليا اقتصادية فقط لا غير، و ما تم تقديمه من حلول للمشكلات السياسية والأمنية قد بلغ أقصى الجهد سواء كان بالحوار أو بالحرب، ولا يمكن – في تقديري – تقديم أكثر منه ما لم تتهيأ ظروف أقتصادية أخرى، ولا أقصد بذلك “التمويل” بل السياسات والتشريعات الاقتصادية وليس مقدار النقد الأجنبي في “الخزنة”… إنني أقصد التغيير الاجتماعي والسياسي الذي يتمخض عن تغير الظروف الاقتصادية.
لقد قدمت من قبل زعما محددا وهي أن المشكلات في ثلاثة مجالات وهي: تشريعات الأراضي – قانون العمل – تنظيم الجبايات.
1/ المشكلة الأولى وهي مشكلة الأرض … والتشريعات المنظمة للملكية بأنواعها … إذ ليس الحل في نزع الدولة والتعويض ومن ثم إدخال المستثمر في منازعات فرعية في تنفيذ قرار النزع على أرض الواقع وهو من صميم عمل الدولة … “جوهر الحل” في ربط واجبات الدولة والتزاماتها الخدمية بتنظيم الأراضي ودخولها النهائي في الخارطة الاستثمارية … فالمجتمع الأهلي الذي يتجاوب مع فرز الملكيات الحكومية من الأهلية يتلقى خدمات وحوافز مباشرة من عوائد الاستثمار الذي يحل في أرضه … والذي لا يتجاوب تلتزم الدولة تجاهه بالخدمات الأساسية وتترك الإضافية له … عندها ستنجح مناطق وتفشل أخرى ثم تنتقل عدوى النجاح وتتغير العقليات القديمة … ما إن تنهض بعض المجتمعات بسبب الفرز السليم والنهائي إلا وتكون قدوة لغيرها … وفي ذلك حلول وسطى مثل تمليك الأراضي النموذجية لمؤسسات نفع عام وشركات أهلية مملوكة للأهالي والدولة على الشيوع بنسب متفاوتة … وقد يقال إن هذا الحل خيالي وغير ممكن وذلك لاختلاط الأرض والطرق من مكان إلى مكان واستحالة التفرقة بين الخدمات لأنه شبكات تتصل ببعضها … والجواب أن ما قدمته هو “جوهر الحل” ولكن التطبيقات تختلف كما سيأتي لاحقا.
2/ قانون العمل مؤسس على الإنحياز للطرف الأضعف وهو العامل، وهذا غير حقيقي إلا في الاستثمارات المستقرة في مناطق حضرية تتوفر فيها البنى التحتية وتحديدا في القطاعات الصناعية المزدهرة ولكن في المناطق التي تختلف عن ذلك فالمنتج هو “الطرف الأضعف” والعامل المحلي هو الطرف الأقوى لأنه مسنود بالمجتمع المحلي تتوافر له فرص وخيارات أخرى … وهاهنا يجب أن ينحاز التشريع للمنتج وليس العامل، فالمنتج مواطن والعامل مواطن وكلاهما يتمتعان بالحق في العمل دون محاباة “آيدلوجية” أو مزايدات سياسية، ومن جهة أخرى (على سبيل المثال) تخوف المنتج من حقوق نهاية الخدمة يدفعه لتقليص عدد العمال وإضاعة فرص العمل بسبب عدم الجدوى الاقتصادية. وهذا يعني أن قانون العمل يحمي حقوق ما بعد العمل، لكنه يضيع “الحق في العمل” … وهاهنا نقطة أخرى يمكن ربطها بالأولى لتتضح الصورة وهي ضرورة منح مؤسسات النفع العام أولوية في فرص العمل لأهالي المنطقة بنسب محددة وبذلك يتحقق حافز التنمية المتلازم مع الاستثمار.
3/ ليست المشكلة في حجم الجبايات وإنما في عدم تنظيمها وتعدد نوافذها، وعدم تنسيقها مع الظروف المختلفة من مكان إلى مكان، ما نحتاجه هو نظام جبائي واضح ومرن وذكي في نفس اللحظة … وهذا لا يتم إلا بإشراك المكون المحلي للبزنس والمستفيدين في وضع النظام الخاص به … قد يلتزم مستثمر في منطقة بتوفير طريق معبد وحفر عدد من الآبار وقد يكون هذا أسهل له لامتلاكه الآليات … ويتم هذا بمقابل إسقاط حق الدولة في جبايات محددة لفترات محددة أو بتطويل فترة السماح أو بأي معالجة أخرى … فالنظام الجبائي يجب أن يتم على أساس تفاوضي له معايير ومرجعيات لا سيما في المناطق التي توجد تكلفة أمنية للحماية، فالاستثمار لا يتوقف أبدا ولكن تضاف قيمة الخدمات للتكلفة دوما “تعدين الذهب نموذجا”. وفي هذا السياق يجب تقنين التجنيب وتقنين مستوى مراجعة له قد لا يصل للمراجع العام إلا عبر المستوى المحلي ويكون دور المراجع العام إشرافي إستئنافي .. فالواقع يفرض ذلك ولا داع للمثاليات التي لن يتم تطبيقها وسيتم إختراق نظمها بوسائل فساد مبتكرة.