لم استغرب البتة من لطم أسقف الكنيسة الكاثوليكية بجنوب السودان باولينو لكودو الخدود وشقه الجيوب ومن الولولة والنحيب الذي أخرجه من وقاره في يوم ذكرى انفصال الجنوب، كما لم أدهش لوصفه يوم التاسع من يوليو بيوم الحزن والرثاء، فقد كنا نعلم يقيناً أن ذلك سيكون حال القوم بعد اﻻنفصال، وأن الغافلين من قبيلة النعام في الشمال سيدركون ولو بعد حين أن خروج الجنوب من حياتنا ووطننا نعمة كبرى، بل هو استقلال يستحق أن تنحر من أجله الذبائح وتنصب السرادقات وتقام الاحتفاﻻت.
فقد قال الأسقف وهو يعبر عن حزن أحال اليوم الذي لطالما انتظروه منذ ما قبل استقلال السودان إلى كابوس.. قال (اليوم ينبغي أن يكون يوم حزن وصﻻة وصوم من أجل أرواح أبناء جنوب السودان الذين ماتوا بالآﻻف بعد استقﻻلهم) المزعوم جراء الحرب الأهلية التي اندلعت بين الجنوبيين وأقلها بملء في ..( ولسع.. انتو شفتو حاجة؟ نحن ﻻ نزال في البداية).. بداية اكتشاف القوم أن شعب السودان الشمالي صبر على وحدة مستحيلة مع الجنوب لم يقررها هو، إنما فرضها مستعمر لئيم لم يرد لنا خيراً حين ضم إلينا شعباً يبغضنا، بل شعب يبغض بعضه بعضاً، ولا يوجد ما يقيم وحدة بين قبائله المتشاحنة ناهيك عن أن يوحد بينه وبين شعب الشمال الذي أرضع كراهيته من أثداء الاستعمار السامة.
أضابير التاريخ كانت تشهد على أن النخب الجنوبية المبغضة للشعب السوداني قالت يوم استقﻻل السودان عام 1956 (لقد استبدلنا سيداً بسيدٍ)، بل أكاد أجزم أنهم حزنوا في ذلك اليوم وغضبوا لخروج المستعمر الإنجلبزي من أرضنا ﻷنهم كانوا وﻻ يزالون يفضلونهم على الشعب السوداني الذي كانوا يطلقون على أفراده لفظ (المندكورو)، وهي من الصفات الذميمة الوضيعة التي تعني في لهجتهم (الغثاء) .
ألم يقل عدو السودان باقان أموم وهو يغادر السودان بعد أن قرر شعب الجنوب الانفصال.. ألم يقل (باي باي للعبودية) (باي باي للعرب)؟.. إنها نفس اللغة التي ظلت مركوزة في نفوسهم بعد أن حفرت من قبل المستعمر والإرساليات التبشيرية في مناهج التعليم، ومن خﻻل قانون المناطق المقفولة الذي كرس عزلة ثفافية بين الشعبين حتى يحول دون دخول الثقافة العربية الإسﻻمية واللغة العربية والإسﻻم في تلك الأحراش.. الآن وقد نزح مئات الآﻻف من أبناء الجنوب فراراً من الحرب التي أخذت تفتك بجنتهم الموعودة التي لطالما أطلقوا علينا أبشع الصفات اتهاماً وتجريماً لسياسيينا الذين كانوا جراء غفلتهم وعاطفتهم المجنونة يحرصون على استبقائها جزءاً من وطن لم يحدد أبناؤه المستعمرين – بفتح الميم – (المسترقين) خريطة وطنهم، إنما حددها أعداؤه كيداً وتآمراً وتعويقاً لنهضته وتطوره.
الآن وقد بدأ أبناء الجنوب يعضون أصابع الندم على ما فرطوا في نصيحة حكيمهم ﻻدو لوليك الذي نصحهم بالإبقاء على الشمال (نشارة) بين أكواب الزجاج تحميهم بتوحدهم في مواجهتها وعدائهم لها من تحطيم بعضهم بعضاً، وعلى تفريطهم في الشمال وشعبه الذي تحمل كثيراً من أذى تمردهم وحربهم عليه، وكان جزاؤه جزاء سنمار، بل أكثر وأخذ أبناء الشمال يتنسمون عبير الانعتاق من سجن كئيب فرض عليهم بدون ذنب جنوه ينبغي أن نأخذ حذرنا مما ينطوي عليه المخطط الجديد.
أود أن أوصي غندور وصحبه من أن تنطلي عليهم خدعة سوزان رايس وباقان وموسيفيني التي هدفت إلى إحياء العدو القديم حتى تعود نظرية ﻻدو لوليك ويخرج الجنوبيون من حربهم الأهلية المحلية إلى قضية وطنية خارجية ويتفاوض الجنوب حول ذات القضايا القديمة مما يحرج المتحاربين ويقفز بهم من مستنقع الحرب الأهلية إلى التوحد في مواجهة العدو المشترك.
حذاري يا غندور من الاستجابة لخدعة باقان، فﻻ حوار مع باقان الذي ﻻ يمثل حكومة الجنوب إنما الحزب (الحركة الشعبية)، وﻻ تفاوض الآن حتى مع حكومة الجنوب على الأقل في الوقت الحاضر ذلك أن الأوضاع الهشة والحرب الأهلية وشبح التمزق والانفصال إلى ثﻻث وﻻيات (أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية) يهدد الجنوب وينبغي أن ننتظر حتى تستقر الأوضاع.
أفهم تماماً كيف يفكر باقان فقد حفظته عن ظهر قلب بحكم التخصص في الرجل الذي سبق أن اشتكاني والانتباهة (قبل الانقﻻب) من واشنطون إلى المجتمع الدولي ونشرنا ذلك في الانتباهة في حينه .. باقان سيسخن جنوب كردفان من خﻻل دعم رفاقه في قطاع الشمال والجبهة الثورية بالسﻻح حتى يحرك الاوضاع ويضغط على السودان لاستئناف المفاوضات مع قطاع الشمال ومع حكومة الجنوب والعودة إلى ذات المربع الذي توقفت فيه المفاوضات بين الدولتين، سيما وأن الرجل وسفارة الجنوب قد أعلنا فور عودته إلى موقعه السابق عن زيارة سيقوم بها لإنفاذ الاتفاقيات الموقعة مع السودان، والتي شبعت موتاً منذ أن تفجرت الأوضاع في جنوب السودان.
رايس لم تحوجنا إلى الاجتهاد فيما عاد باقان من أجله فقد صرحت أن غياب باقان عطل مشروع السودان الجديد ولذلك أعادته إلى المسرح من جديد حتى يحقق رغبتها الجامحة في تعكير صفو السودان.