شاب فرنسي في الثلاثين من عمره تعرفت علىه في مكة المكرمة بعدما انتهى من أداء مناسك العمرة، فقال لي مع صديقه الذي كان يترجم لي من الفرنسية للعربية، إني أتمنى أن أقص شعري بعد أداء مناسك العمرة كما فعل رسول الله – صلى الله علىه وسلم – بأنه حلق شعره كله، فقلت له: يمكنك فعل ذلك، فقال والدمعة تنزل على خده: أنا أحب أن أفعل كل ما فعله رسول الله صلى الله علىه وسلم، وقد دخلت في الإسلام قبل عدة سنوات على الرغم من رفض والدي دخولي للإسلام، وقد حذرني والدي أكثر من مرة من التقرب للمسلمين أو زيارة ديارهم لأنهم كما يعتقد هو أن كل المسلمين متطرفون، وقد حاورته أكثر من مرة لأقنعه أن المتطرفين عددهم قليل بالنسبة للمسلمين ولكن الإعلام الغربي يضخم الأمر ويظهر للمشاهد أن كل المسلمين متطرفون، ولهذا فإن أمنيتي أن أحلق شعري ولكني أخاف أن يعلم أبي أني عملت عمرة فيتهمني بالتطرف ولا يسمح لي بالسفر مرة أخرى.
قلت: ولكن والدك يعلم أنك سافرت أليس كذلك؟ قال: نعم ولكنه يعرف أني سافرت سياحة وليس طاعة وعبادة لأداء مناسك العمرة، وأنا عندما قلت له سياحة لم أكذب لأن سفري هذا سياحة دينية وأحببت أن أخفي نيتي عنه، فقلت له: إنما الأعمال بالنيات وإن شاء الله تأخذ ثواب الحلق لأن الله يعرف ظروفك العائلية وأنك تخفي ايمانك وأداء مناسك العمرة عن أهلك لتحافظ على علاقتك معهم، فاستمر في علاقتك الطيبة مع والدك لعل الله يهديه للإسلام.
إن مثل هذا الموقف يتكرر كثيرا في حياتنا، وقد ذكر القرآن الكريم قصة رجل كان يخفي إيمانه ولكنه تحدث مع قومه حماية لموسى علىه السلام بطريقة منطقية وعقلية، من غير أن يصرح بأنه مؤمن بدينه وعقيدته، كما ذكر الله عز وجل قصته (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم، وإن يك كاذبا فعلىه كذبه، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب)، فعرض الذي يخفي إيمانه مسألة الإيمان وهي مسألة كبيرة بطريقة بسيطة حتى يسهل الأمر، وقال (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) فعظم من شأن القتل مقابل أن ينعم الإنسان بحرية الاعتقاد والتفكير، وهو الفرق الجوهري بين دعوة موسى علىه السلام لعبادة الله ودعوة فرعون عندما قال لقومه (أنا ربكم الأعلى) فالفرق بينهما كبير ولكن الرجل طرح القضية الكبيرة بطريقة بسيطة، وكما قيل (الإبداع في التبسيط لا في التعقيد) ثم إنه حمل مسؤولية القرار لموسى علىه السلام وكأنه يقول للمعارضين من قومه: لماذا تضيعون وقتكم وتضعون همكم بهم رجل يقول (ربي الله)، اتركوه وشأنه فإن كان كاذبا فهو الخسران لأن الكذب حبله قصير وسينكشف بعد حين، وإن كان صادقا ستكتشفون ذلك مستقبلا لأنكم ستشاهدون الآيات التي أخبركم عنها، وهذا أسلوب ذكي في الدعوة إلى الله بطريقة غير مباشرة، فهو رد على طرح فرعون الحسي بطريقة عقليه، لأن فرعون استخدم حاسة البصر في إقناع أتباعه (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلى أطلع إلى إله موسي وإني لأظنه من الكاذبين) فيريد فرعون بحاسة البصر إقناع قومه بكذب دعوة موسي علىه السلام، بينما مؤمن آل فرعون خاطب قومه بالمنطق والعقل وليس بالحواس، ولغة المنطق أقوى من لغة الحواس، وكأن خطابه رد ضمني على قرارات فرعون من غير ما يشير إلى كلامه.
إن هذا المنهج التربوي في العلاقات الاجتماعية والخطاب مع الناس هو الذي نحتاجه هذه الأيام مثل قصة أخينا الفرنسي في تعامله الذكي مع أبيه وهو يكتم إيمانه.
الخبير الاجتماعي والتربوي