ننشر نص قرار المحكمة الدستورية حول أحداث بورتسودان 2005م
بعد مضي عشرة أعوام بالتمام والكمال أعادت المحكمة الدستورية ملف قتلى بورتسودان في 29 يناير 2005 إلى واجهة الأحداث مجدداً، بقرارها القاضي بقبول الدعوى المقدمة من أسر بعض القتلى وإلغاء قرارات النائب العام الخاصة بسقوط حق الأسر بالتقادم، وتوجيه المحكمة للنيابة بفتح دعوى جنائية باسم الطاعنين ضد القتلة وتقديمهم للقضاء. (السوداني) تقدم أدناه النص الكامل لقرار المحكمة الدستورية:
رصد: عبد القادر باكاش
بسم الله الرحمن الرحيم
المحكمة الدستورية
النمرة: م د / ق د / 139/2013
حسين حسان وآخرين
/ضد/
وزارة العدل – النائب العام
تلخصت وقائع هذه الدعوى في أنه بتاريخ 29/1/2005م وقعت أحداث شغب في مدينة بورتسودان إثر خروج جمهرة من المواطنين في مظاهرة إلى الشارع العام. تصدت الشرطة لتلك المظاهرة وحدث صدام راح ضحيته عدد من المواطنين قتلى.
قامت السلطات المختصة بفتح محضر إجراءات أولية بتاريخ 29/1/2005م
بتاريخ 27/2/2005م أصدر السيد وزير الداخلية أمراً بتشكيل لجنة تحقيق في الأمر مكونة من إثنين من وكلاء النيابة وقاضي.
توصلت اللجنة إلى تسوية مع بعض أولياء الدم الذين قبلوا التعويض ورفض عدد منهم تسوية الأمر والتعويض.
تقدم الرافضون لمبدأ التسوية بطلب إلى السيد وكيل النيابة المختص لغرض السير في إجراءات الدعوى الجنائية ضد القوات النظامية.
رفض السيد وكيل النيابة ذلك الطلب في قراره الصادر في 13/2/2011م.
تقدم الطاعنون بإستئناف ضد ذلك القرار إلى السيد وكيل أول النيابة الذي أصدر قراراً في 1/3/2011م رفض فيه طلب الاستئناف المرفوع إليه لتقديمه خارج القيد الزمني المقرر له.
رفع الطاعنون استئنافاً ضد هذا القرار إلى السيد وكيل النيابة الأعلى الذي أصدر قراراً أيضاً يرفض الطلب وأمر بحفظ الأوراق.
أيد السيد رئيس النيابة العامة بولاية البحر الأحمر ذلك القرار وذلك بتاريخ 30/3/2011م تأَيَّد هذا القرار أيضاً من قبل السيد المدعي العام لجمهورية السودان بقراره رقم و ع / م ع / نقض/ 60 بتاريخ 6/6/2011م.
إنابة عن الطاعنين حسين حسان وآخرين تقدم الأساتذة رفعت عثمان مكاوي وحميد إمام محمد ومحمد إبراهيم عبد الله المحامون بهذه الدعوى استناداً على انتهاك القرار أعلاه لحقوق موكليهم الدستورية في المواد 28 و35 من الدستور بناءً على الأسباب الآتية:-
1- تقاعس النيابة عن فتح الدعوى الجنائية في مواجهة القوات النظامية التي ارتكبت الحادث أدى إلى حرمان الطاعنين من حقهم الدستوري في اللجوء إلى القضاء وحرمانهم من حق التقاضي.
2- أدى ذلك إلى إزهاق أرواح موكليهم هدراً خلاقاً لما نصت عليه المادة 28 من الدستور. أعلن المطعون ضده ورد على عريضة الدعوى بتاريخ 16/7/2014م. نلخص رد المطعون ضده في:
(1) سقوط الحق بالتقادم.
(2) عدم استنفاذ طرق التظلم المتاحة قانوناً.
(3) عدم وجود ضرر.
(4) لم يوضح الطاعنون أسباب استنادهم على نص المادة 28 من الدستور.
وختم رده بأن النيابة العامة لم ترفض اتخاذ إجراءات عن الواقعة المدعى بها، حيث الثابت في قرار وكيل النيابة الأعلى في 20/3/2011م فإن تحريك إجراءات جديدة يتطلب حضور الشاكين مع تحديد الأشخاص المنسوب إليهم الاتهام من القوات النظاميّة.
وأن قرار المدعي العام بتاريخ 6/6/2011م ليس رفضاً لفتح الدعوى الجنائية وكان ينبغي على الطاعنين التقدم بطلب لوزير العدل لممارسة سلطاته بموجب قانون الإجراءات الجنائية 1991م.
نخلص بناء على ما تَقدَّم إلى الحقائق الآتية:
1- هناك عدد من القتلى سقطوا جراء إطلاق النار عليهم من قوات تتبع للدولة – شرطة – آمن – جيش.
2- تم فتح محضر إجراءات أولية تم بموجبها تشريح الجثث ودفنها بأمر النيابة.
3- لم تفتح دعوى جنائية ضد الجناة.
4- قبل بعض أولياء الدم بتسوية مع الحكومة بشأن الدية والتعويض ورفض الطاعنون ذلك.
5- تقدم الطاعنون بطلب للسير في الإجراءات رُفض من قبل وكيل النيابة المختص وتأيد هذا القرار حتى المدعي العام لجمهورية السودان.
6- لم يتقدم الطاعنون باستئناف ضد قرار المدعي العام القاضي بتأييد قرار وكيل النيابة الذي رفض فيه السير في الإجراءات.
بناءً على ما تقدم فإننا نطرح السؤال الآتي ونجيب عليه: هل أدى قرار النيابة المشار إليه أعلاه إلى انتهاك حقوق الطاعنين الدستورية تحت نص المادة 35 من دستور جمهورية السودان الانتقالي 2005م؟
التقاضي في الفقه الإسلامي هو “اللجوء إلى القضاء طلباً لفصل الخصومات وغيرها بحكم الشرع إلزاماً وبطرق مخصوصة” والمراد بكفالة حق التقاضي هو ضمان حق الأفراد في اللجوء إلى القضاء مع توفير الحماية اللازمة لهم في المثول أمامه طلباً لفصل الخصومات وغيرها بحكم الشرع إلزاماً وبطرق مخصوصة.
عَبَّر شُرَّاح القانون عن مفهوم حق التقاضي بصيغ متعددة، كلها تبين مضمونه وتوضح معناه، ومن هذه الصيغ ما ذكره بعض الشراح أن حق التقاضي يعني أن لكل شخص في الدولة حق المطالبة أمام القضاء بالحماية القانونية، وأن له حق الدفاع لما يطلبه أو يُطلب منه أمام المحاكم.
كما عبر البعض الآخر عن معنى حق التقاضي بأن لكل فرد وقع عليه اعتداء على حق من حقوقه أن يلجأ إلى القضاء لرد ذلك الاعتداء والانتصاف لنفسه ممن ظلمه وسلبه حقه.
وقد ذكر فريق ثالث أن حق التقاضي هو حق التجاء الأفراد إلى القضاء فيما يدعونه من حقوق. وأخيراً هناك من عرف حق التقاضي بأنه تمكين الفرد من الالتجاء إلى القاضي الطبيعي وفقاً لطبيعة المنازعة.
يتضح مما تقدم أن حق التقاضي:-
– مبدأ أساسي من مبادئ القانون، ونظراً لضرورة هذا الحق للإنسان فقد حرصت الدساتير المختصة على تقريره والنص عليه.
– ونظراً لأن حق التقاضي حق أصيل لا يجوز حرمان أي شخص من التمتع به ولا يصح لأية جهة في الدولة أن تنال منه والقول بغير ذلك يجعل أحكام القانون والدستور كالعدم.
– حق التقاضي حق طبيعي فهو من الحقوق الطبيعية للإنسان ومن المسلم به أن الحقوق الطبيعية لصيقة بشخص الإنسان وأنها لا تنفك عنه أبداً لأنها مستمدة من القانون الطبيعي السابق على كل قانون وضعي، ولهذا فإنه لا يجوز المساس بهذا القانون.
– حق التقاضي حق مُطلَق غير مقيد بأي قيد.
– حق التقاضي حق عام فهو يثبت لجميع الأشخاص سواء كانوا طبيعيين أو اعتباريين وسواء كانوا موطنين أو أجانب وسواء كانوا ذكوراً أم إناثاً دون النظر إلى السن أو المركز الاقتصادي أو الاجتماعي أو الأدبي؛ فكل الأفراد يتساوون أمام هذا الحق وهو كسائر الحقوق العامة لا ينتقص بالتقادم ولا يجوز النزول عنه إطلاقاً لما في ذلك من مخالفة للنظام العام.
هذه المعاني عبر عنها المشرع السوداني في المادة 35 من دستور جمهورية السودان الانتقالي بوضوح شديد، والتي تُقرَأ “يكفل للكافة الحق في التقاضي ولا يجوز منع أحد من حقه في اللجوء إلى العدالة”.
في هذه الدعوى وقع صدام بين بعض المواطنين والسلطة العامة “شرطة – جيش – آمن” سقط إثر ذلك عدد من الجرحى والقتلى.
القانون يقول في المادة 33 من قانون الإجراءات الجنائية 1991م “تفتح الدعوى الجنائية بناء على علم لدى شرطة الجنايات العامة أو وكيل النيابة أو بناءً على ما يُرفَع إلى أيهما من بلاغ أو شكوى”.
في هذه الدعوى بعد علم الشرطة والنيابة بالحادث قامت بفتح محضر للتحري وفقاً لمتطلبات المادة 51 من قانون الإجراءات الجنائية التي تُقرَأ (1) “إذا وردت معلومات أو بلاغ بالعثور على جثة إنسان أو انتحار شخص أو موته في حادث ما، فعلى الضابط المسئول ولو لم تقم لديه تهمة بارتكاب جريمة أن يحرر تقريراً بالمعلومات أو البلاغ ثم يقدمه إلى وكالة النيابة أو ينتقل فوراً إلى مكان الجثة ويتحرى في سبب الموت وفق إجراءات التحري في الجرائم المتعلقة بالموت.
(2) على وكيل النيابة متى ما مكَّنته حيثيات التحري من ذلك أن يتخذ قراراً بتوجيه تهمة أو قراراً مسبباً بأن الوفاة لا تترتب عليها تهمة، وعليه في هذه الحالة أن يرفع قراره مشفوعاً بتقرير التحري إلى رئيس النيابة العامة بالولاية.
في هذه الدعوى قامت الشرطة والنيابة بالتحري واتضح لها أن الجثث قُتِلت رمياً بالرصاص من قبل قوات تتبع للدولة، سواء كانت شرطة أم جيش أو خلافه، ولكنها فقط اكتفت بالأمر بتشريح الجثث، والأمر بدفنها، ولم تقم بفتح دعوى جنائية ولو ضد مجهول إن كان الفاعل مجهولاً.
تدخل هنا السيد وزير الداخلية وأمر بتكوين لجنة تحقيق دخل بموجبها في تفاوض مع ذوي المجني عليهم بغرض تسوية الأمر بالتسوية، وهذا إقرار ضمني أن من قام بقتل المجني عليهم يتبع لوزارة الداخلية، وبالفعل تمت التسوية مع بعض ذوي المجني عليهم ورفض الطاعنون مبدأ التسوية عندها طالب الطاعنون الشرطة والنيابة بالسير في إجراءات الدعوى فكان إن جاء رد النيابة بأن حقهم قد سقط بالتقادم، ليس ذلك فحسب؛ بل طالبت النيابة مقدم الطلب بتحديد أشخاص محددين في القوات النظامية لمباشرة الإجراءات في مواجهتهم. علماً بأن جريمة القتل من الجرائم المطلقة وتفتح النيابة الدعوى فيها حتى لو كان المقتول والقاتل معاً مجهولَين، وإن واجب الشرطة والنيابة هو البحث عن الجناة والقبض عليهم وتقديمهم للعدالة.
إن النصوص التي اعتَمَدَت عليها النيابة في رفض فتح الدعوى الجنائية لا يمكن اعمالها في هذه الدعوى، لأن الشرطة والنيابة هي التي تقاعست في بادئ الأمر عن فتح الدعوى الجنائية خلافاً لما نص عليه القانون. كان على النيابة عندما تبين لها أن هناك ما يشير إلى احتمال وقوع جريمة قتل أن تفتح دعوى جنائية ويمكن تقييدها ضد مجهول انتظاراً لما تُسفِر عنه التحريات.
لكل ما تقدم، فإني أرى أن القرار موضوع الدعوى قد خالف نص المادة 35 من الدستور وحجب حق الطاعنين في اللجوء إلى القضاء بإجراءات ظاهرها تطبيق القانون وهي في حقيقة الأمر مخالفة واضحة لنصوص القانون والدستور.
بناءً عليه أرى أن نلغي قرار النيابة موضوع الدعوى ونأمر بفتح دعوى جنائية باسم الطاعنين ضد من تسفر عنه التحريات وتقديم من تُوجَّه إليه التهمة إلى القضاء.
عبد الرحمن يعقوب إبراهيم
عضو المحكمة الدستورية
15/4/2015م
تمثل هذه الدعوى في نظري نموذجاً مثالياً لعمل المحكمة الدستورية في حماية الحقوق الإنسانية التي كفلها الشرع الحنيف والدستور الانتقالي والقوانين ذات الصلة، ومن أهمها حق الحياة وحق التقاضي وواجب الدولة في كفالة وصيانة هذه الحقوق مهما كان الثمن المترتب على ذلك. واجب المحكمة الدستورية في الانتصار لهذه الحقوق وإزالة كل العوائق التي تحول دون المطالبة بها أو المدعاة بشأنها.
ويتعلق موضوع هذه الدعوى بدم كثيف أُريق سفاحاً على قارعة الطريق من قوات نظامية تتبع للدولة قبل سنوات عديدة، وعلى وجه الدقة في التاسع والعشرين من يناير 2005م، ومنذ هذا التاريخ لم يُسأل أحد عنه حتى اليوم مع أن حُرمته أشد من هدم الكعبة الشريفة حجراً حجراً؟؟.
تم إجراء تحقيق رسمي في هذه الحادثة لم يفصح عن نتائجه حتى الآن لسبب ما وبأمر من جهة ما.
تم إجراء تسويات مع بعض أولياء دم القتلى وتنازلوا عن حقهم في الاقتصاص لقتلاهم، بينما رفض الطاعنون التفاوض في هذا الشأن والتجأوا للقانون للتحاكم إليه في صبر ومثابرة طويلين، بحثاً عن العدالة التي لم تتحقق حتى اليوم لقيام عوائق وجُدُر إجرائية مُحكَمة السياج حالت دون وصول قضيتهم للمحاكم لتقول قولتها في مساءلة من ثبت ولوغهم في هذا الدم المسفوح.
هذه الجدار والعوائق تمثلت في إجراءات النيابة بدرجاتها المختلفة التي تعرضت لملف التحقيق أو بالأحرى أعرضت عنه؛ حيث لم يوجه الاتهام إلى أية جهة أو شخص طوال هذه السنوات، وها هي وزارة العدل تتذرع في سياق ردها على هذه الدعوى بدفع مفادة أن حق أولياء الدم في الإدعاء قد سقط بسبب التقادم!!
أيُّ دمٍ هذا يُهدر بالتقادم وأيُّ تحرٍّ وأيُّ إجراءات يطلب فيها المحققون من أولياء الدم تقديم كشوفات عن أسماء الجناة، وهم قوة نظامية متكاملة العدة والعدد تم إرسالها من جهات حكومية لإنجاز مهمة نفذت على أكمل وجه؟!.
هذه أسئلة لازمة ومشروعة أفلح زميلي عبد الرحمن يعقوب في التعرض لها وتم الرد عليها بما لا يحتاج إلى زيادة أو تعقيب منا.
ونحن إذ نوافق على رأيه القاضي بوجوب إلغاء كل إجراءات وقرارات النيابة المتعلقة بدعوى الطاعنين، نرى أهمية إطلاع على محضر ونتائج التحقيق الذي تم في الحادثة موضوع الدعوى وذلك لمساعدة الهيئة على فهم ملابسات تلك المَقتَلة والوصول إلى قرار نهائي بخصوص هذا الطعن على بصيرة وهدى منير.
د. محمد أحمد طاهر
عضو المحكمة الدستورية
22/4/2015م
أوافق على قضاء الزميل العالم عبد الرحمن يعقوب
د. محمد إبراهيم الطاهر
عضو المحكمة الدستورية
23/4/2015م
أوافق على رأي الأول.
سنية الرشيد ميرغني
عضو المحكمة الدستورية
26/4/2015م
أوافق على إصدار قرار بفتح دعوى جنائية وفق القانون حسبما وضحه المدعي العام في قراره بشأن رفع الحصانة ومتطلباتها بتاريخ 6/6/2011م.
د. حاج آدم حسن الطاهر
عضو المحكمة الدستورية
28/4/2015م
أوافق الرأي الأول فيما تفضل به من أسباب، والزملاء فيما قرروا في اتفاق معه.
سومي زيدان عطية
عضو المحكمة الدستورية
29/4/2015م
أوافق الزملاء الرأي وللأسباب الواردة بمذكرة الزميل عبد الرحمن.
د. وهبي محمد مختار
رئيس المحكمة الدستورية
3/5/2015م
الأمر النهائي:-
1- قبول الدعوى موضوعاً وإلغاء القرارات الصادرة من النيابة العامة.
2- الأمر بفتح الدعوى الجنائية باسم الطاعنين ضد من تسفر عنهم التحريات وتقديمهم للقضاء.
3- يخطر الأطراف.
د. وهبي محمد مختار
رئيس المحكمة الدستورية
3/5/2015م
السوداني