> الذي حكى لي الحادثة دكتور زراعي كبير وله تخصص رفيع في الاقتصاد الزراعي من إحدى الجامعات الغربية المعدودة من الكبريات.
> قال لي إنه كان طالباً بمعهد شمبات الزراعي، وكان له اسم ودوي، خاصة أن الجامعات والمعاهد يومها جامعة الخرطوم والمعهد الفني ومعهد المعلمين العالي.
> ولأن المعاهد العليا ظلت لزمان طويل تشكو من تقاصرها عن الجامعة في الشهادة والتوظيف، فقد كانت تعتريها دائماً غضبات طلابية بحق بين أو بباطل بائن.
> وفي الديمقراطية الثانية دخل طلاب معهد شمبات الزراعي في اضراب شهير، وملأت مناشيرهم وتظاهراتهم الآفاق، ولأن ظلامات الستينيات كانت من بعض الترف، فقد أعطيت الازمة اهتماماً بالغاً في أجهزة الإعلام، واختلط يومها العلمي والسياسي بالخدمي وبالتطلعات الذاتية للأفراد وللتنظيمات، وكادت الشوارع المؤدية الى المعهد تندلع بالغضبة والتظاهرات.
> ولم يكن للناس حديث في المجالس والصحف وبيوت العزاء ومباريات (العصر) بميدان الخليفة أو دار الرياضة بام درمان إلا عن اعتصام ظلاب معهد شمبات واستعدادهم للمصادمة والموت في سبيل القضية، لأنهم ما كانوا يفقدون شيئاً سوى الاغلال.
> ويومها تدخل مؤتمر القوى الجديدة الصادق، ترابي، وليم دينق لدعم المستضعفين وكاد برلمان الشجرة ينتقل من الجمعية الى شمبات.
> على أية حال فقد بلغت يومها روح الأزمة الحلقوم، وبلغ سيل الشمباتة الزبى. وصنع الزراعيون الأشعار والجلالات وتصايحوا كعادتهم (اليوم الحار ما بندار ويا شمبات وراكي رجال)، وفي رواية لصناجة مثل عوض بابكر، أن أولاد شمبات قد أهدوا في حفلة قريبة من مكان (الكعة) رائعة البنا الحارس مالنا ودمنا للطلاب والطالبات، وهي أخطر عند أهل الطرب والعقول بأميال من (النار ولعت) وهي أيضاً من شطحات عمر البنا..
> وعندما أستعد الطلاب للمنازلة (لا يلوون على شيء) وهي عبارة رغم أحساسي بها فإني لا أعرف لها معنى، وجدوا أن الشرطة المدججة بالسلاح قد احاطت بالمعهد احاطة السوار بالمعصم.. وحين كان الناس يعدون أنفاسهم بذات الدقة التي كانوا يحصون بها الثواني.. هرع الطلاب لأن سيارة رسمية قد أقتربت من البوابة وترجل منها أفندي فخيم غير هياب لا من الشرطة ولا الطلاب.. فعرف قائد (فرقة الصاعقة) من سيمائه جلال قدره، فتقدم نحوه فسلمه خطاباً من السيد وزير المالية، وكان يومها المرحوم الشريف حسين الهندي. وكان الرجل مزيجاً من السياسي والوطني والسمسار والصوفي والصحافي وتاجر السلاح والعبقري والمغامر والدرويش والهمباتي والتروبادور المتجول.
> وانتبه الجميع فإن الرسالة من رجل له وزنه متحدثاً ووزيراً وزعيماً.. يحبه حزبه على خوف فتخافه بقية الأحزاب على حب.
> الخطاب يطلب حضور رئيس الاتحاد ولجنته التنفيذية فوراً إلى اجتماع مهم بمكتب الوزير لمناقشة مطالب الطلاب ونقابتهم الممثلة في اتحادهم البطل.
> شاع الخبر وعلى الفور بدأ الطابور الخامس المسالم في اصدار عباراته التصالحية، ووجدت لغتهم صدى عند مجموعات (قدر الله) كما يقول الضرير، من الطلاب والشرطة، فسرت جملة (الصلح خير، فتراخت أيدي التظاهرات وقبضات الريح وتراخت أيدي الشرطة من على فخذ البندقية.
> امتلأت عربة الرسول صاحب السيارة الرسمية باللجنة التنفيذية وأعانها جيب لضابط القوة.. وكانت السيارات آنذاك شحيحة وقليلة، وماضرها فإن الكرام قليل.
> وبعد أقل من ساعة كان اتحاد معهد شمبات الزراعي في حضرة الشريف حسين الهندي ببدلته البيضاء الشهيرة التي يجيد (كروري) بالقاهرة تفصيلها وهو ترزي مصري تخصص في تلبيس الاتحاديين.. وكان المحجوب يسمي محله تندراً هذا ليس محلاً للخياطة (هذا تلبيس أبليس) والتعريض ظاهر.
وقف الرجل الوسيم بشخصيته الساحرة ورحب بالطلاب بسجايا الزعيم وبساطة المواطن.. وصب لهم البارد بيده.. وظلوا وهم مقبوضين لساعة يتأملون هيئته المتناسقة وابتسامته الودودة وشعره المهوش في ترتيب تلقائي بهيج.
وقبل بداية الاجتماع التأريخي كانوا يعدون لمعادلة عجلى ما بين يسمعونه عن الرجل وما يرونه وما يتوقعونه، وكان غير بعيد منهم يجلس أحد الكبار من معهد شمبات الزراعي من الذين يقودونه ويديرون علمه وقضاياه.
> ابتدر الشريف الحديث بخطبة طنانة عن السودان الجغرافيا والتأريخ والتحديات والكفاح في سبيله، والعشق والتوله في كبريائه.. وحدثهم عن رهق أجدادهم وكفاح آبائهم في سبيل تحريره.
وأقسم لهم إنه أتى من اجتماع الليل الى اجتماع الصباح بلا نوم وبلا وجبة إلا طعام السيجار.. ولاطفهم بأبيات المتنبئ خاتماً حديثه العذب:
أرق على أرق ومثلي يأرق
وجوى يزيد وعبرة تترقرق
جهد الصبابة أن تكون كما أرى
عين مسهدة وقلب يخفق
ما لاح برق أو ترنم طائر
إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
جربت من نار الهوى ما تنطفي
نار الغضى وتكل عما تحرق
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
فعجبت كيف يموت من لا يعشق
وكان الشريف عليه الرحمة يجيد فن التخلص، فعندما بلغ آخر البيت قال هذا مقام عشقي للسودان ولن تتجاوزوه إلا إذا (متم) عشقاً الآن.
فضجت القاعة بالضحك، وقد أشاع الرجل بسحره وجاذبيته جواً جديداً خرج بالطلاب من قيد الغضبة إلى رحابة الحور.
وطلب من ممثل الاتحاد أن يتحدث، فقدم الطالب مرافعة ممتازة حول قضايا المعهد في التقييم والشهادة والخدمات والتوظيف والبعثات، وأخبره بكل نضالات السابقين وتسويف الادارات السابقة بما فيها الادارة الحالية.
كان الشريف عليه الرحمة يسجل النقاط في حذق ودقة، وكلما قال ممثل الاتحاد مطلباً نظر سيادته لاداري المعهد في عتاب ولوم. حتى انقضى القيادي الشاب من مرافعته ونقاطه، فأمسك الشريف من جديد بخيط الخطابة والرد، فحدثهم عن المعهد وتأريخه وخباياه، والمطلوب منه في مراحل السودان الأخضر القادم، حديث العارف المجود، حتى ظنوا أنه يتبع للمالية لا للتعليم العالي والجامعات.
وختم حديثه قائلاً إن الحكومة والمالية.. بل الدنيا بأجمعها لا تساوي شيئاً إذا اهرقت الشرطة دم طالب ونحن أحياء. وكيف لها أن تفعل ذلك وهي تعلم أن مهر الحريات والديمقراطية ونعمة الشورى هي نتاج لدماء الطلاب.
اسمعوا يا أبنائي إن القرارات هي التي تصدرونها أنتم لا الإدارة.. والقرارات لا تصبح فعلاً ناجزاً إلا بميزانية وهاهي وزارة المالية على لسان وزيرها تعلن أمامكم موافقتها على كل مطالب طلاب معهد شمبات الزراعي.
واشتعل المكان على ضيقه بالهتافات والتهليل والتكبير.. انسحبت الشرطة واغمدت السيوف والأسنة والجمت البنادق، وعقد الطلاب ندوة داوية عن تحقيق المطالب واجتماع الشريف التأريخي.
ومضت الأيام ولم يتحقق مطلب واحد، مثلما أن الديمقراطية نفسها تم اغتيالها وتربع نميري على كرسي الشرعية غير مبالٍ، وتسلل الشريف مثل عصفور النار الى الفيافي والعواصم الجوف صديقاً مرة وطريداً مرات.. مقاتلاً وخطيباً وثائراً، إلى أن انزوى مثل شمعة القديسة في ركن قصي من فندق أغريقي لا يعرف مقدار روحه ولا جسده.. وطوته بري الشريف والنظام يرتعد منه حياً وميتاً.
> قد تكون في نية الشريف تحقيق كل المطالب أو بعضها أو لا تحقيق أي واحد منها.. ولكن العبرة أن الكبار كانوا دائماً يعرفون كيف يحفظون دماء الناس وأرواحهم بالمصانعة والسياسة والحكمة والدين، وترتيباً على الذي أراه فإن أمر (امري) سوف يستشري ما دام الذين يديرون الناس هم الذين يعرفون بحذق كيف يقتلون الناس.
إن نصف ما تصرفه الانقاذ على أسفارها يمكن أن تقيم به معهداً لتأهيل أسود الشر وليوث المهالك الى قيادات مدنية تحيا في سبيل الله ترحم الصغير وتوقر الكبير.. وتعلن أمام الملأ أن أشجع الشجعان هو الوزير والمدير الخواف الذي ربى مواطنيه.. وكف أيديهم ويده عن التهلكة والإدارات التي تحتاج لهذه الكورسات لتكف عنا الكوارث كثر.. وأكثرها احتياجاً (للصرف) وللكف بالمعنى الغليظ وكف الأذى.
أقول قولي هذا دون أن أطالب النواب الجدد بالانضمام للحزب الاتحادي الديمقراطي القديم ولا لمعهد شمبات الزراعي فالأول كان صرحاً من رجال فضوى والثاني كان صرحاً من (خيال) فهوى!!