عزالدين عباس الفحل : هــادم اللـــذات و فــرار الأرواح

الأرواح قد تتلاحق و تتجاذب وتحس بأنفاسها عبر الأثير قد ترمش رموش مقلتيك ، وترتجف أوصالك فجأة عند ذكر أعز الناس إليك ، قد تكون الحاسة السادسة ، ويا سارية الجبل ، أمي ضلعي المرأة الطيبة ، لا تضمر أية كراهية لأي بشر ، قبلها دائماً مسامح كريم ، فبيل سفرها الآخير إلي تركيا ذهبت إلي كل الجيران وودعتهم وداع المفارق ، إحساس باللاعودة ، دخلت المسجد في يوم الجمعة مبكراً وليست كعادتي ، شعرت بزمهرير الخوف يدغدغ الوجدان ، في ركن قاص جلست في المسجد ، فتحت المصحف الشريف عشوائياً فكانت سورة ( ق ) ،
(15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ( 29)
هادم اللذات ومفرق الجماعات ، القبر ووحشته ، منكر ونكير ، تذكرت فجأءة أمي ، ، ودمعي ينهمر شلال كأنها لحظات وداع عبر الأثير ، قرأت سورة ( ق ) كأني أقرأها أول مرة . أغلقت المصحف دون أن أدري وسرحت بجنوح الخيال الوسواس طويلاً أمعن النظر لشئ لا أراه إلا بإحساسي الطامح لرؤية أمي . بعد صلاة الجمعة أخذت قسطاً من الراحة نمت كنوم الدجاج علي أمشاط رجليه ، لم أكن مرتاحاً في النوم ، كأن شيئاً يقلق مضجعي ، وإذا بهاتف الموبايل يرن يقطع نوم الدجاج ،
ويمزق أشرعة النعاس ، ويصرخ في غيائب الصمت الجريح ، كان في الهاتف شقيقي محمد يبعد مسافة خمس دقائق من داري في الخليج العربي ، سألني إن كنت إتصلت بـ تركيا ، أجبته بأن آخر إتصال كان بالأمس ، رد علي بصوت تكتمه الغصة ( أمي إتوفت ) ،،،، كأن بركاناً فجر دماغي ، كأن عاصفة هوجاء دمرت كياني،
كأني ريشة تعصف بها الرياح الخماسية ، والظلام الدامس وإنعدام الرؤيا لهول المصاب الجلل ، هل تذكرت سورة ق ؟ كلا ورب الكعبة .
إنفعالات بالحزن هجمت علي كل أوصالي ، تحجرت الغصة في حلقي ، كالحجر ،
قذفت بالموبايل كأني لا إعرفه ، وثواني عم العويل والبكاء المُر والنحيب الحنظل والثكلي كل أرجاء الشقة ، وإندفعت أسراب من النسوة في بكاء عالي الأصوات
. تركت الشقة و ذهبت إلي شقيقتي ، وجدتها في حالة يرثي لها ، وقد جحظت أعينها إلي السماء و إنعدمت أنفاسها ، من شدة الحزن ، جاء إبن عمتي رجل الأعمال ود التازي ، وبعد رفع الفاتحة واجهني قائلاً :-
( أنا حجزت في أقرب طائرة إلي السودان ،ح أصل قبلكم وأكون في إستقبال الجثمان ،) ، Corpse
ماأن قال الجثمان إلا وشهقت روحي إلي السماء ، وصحت في دواخلي كالمهوس ( أمي يقال لها جثمان ) هكذا تغير إسمها ( بت القبائل ) ، لا ، لا ، ثم لا ،
عند أقرب باب طائرة إلي السودان صعدنا . الرحلة إلي السودان كانت بائسة طويلة المسافات والزمن تصلب وجفل ، والأحزان ، وصراخ ، وعويل ، ونحيب ،
و عند رؤية منزلنا في الخرطوم بحري ، وجدت سرادق العزاء منصوباً حزيناً ،
أدركت أن أمي قد توفت ورحلت من الدنيا الفانية ، و علي وقع أقامي تهيج دارنا إلي بكاء مد السماء والنسوة خرجن ، و الأطفال ، والشيوخ ، هذه تقلدني ، وتلك تجذبني ، ورهط منهن تناولنني بالنحيب يمنة ويسري ، إنهارت كل قواي ، وهزلت أعصابي ، كل ذاك والفجر الحزين لم يجر خيوطه ، كأنه لبس السواد والعتمة ،
و نزيف من البكاء إلي يوم يبعثون .
(29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
عزالدين عباس الفحل
ابوظبي

Exit mobile version