دفعة ثانية من الطلاب السودانيين غافلوا اسرهم وزملاء دراستهم وغادروا في رحلة مجهولة المصير تقودهم الى عبور حدود تركيا في طريقهم الى «دولة الخلافة الاسلامية» التي رسموا في مخيلاتهم صورة زاهية لها.. وعندما انتبهت المدينة على اخبار غيابهم كانوا قد غادروا حدود السودان ووصلوا الى مشارف وجهتهم المقصودة . لم يحدث الامر هكذا صدفة، فرحلة قصيرة بين صفحاتهم علي الفيسبوك بينت لنا ان هذا الخروج كان من الممكن التنبؤ به قبل وقت طويل ..
(1)
كان على من حوله التنبه لمساره نحو التطرف منذ فترة طويلة، ففي التاسع من اغسطس عام 2014 عدل محمد (س) صورة (الغلاف) الخاصة بصفحته على موقع الفيسبوك برسم يظهر فيه افرادا يرفعون علم (داعش) فوق ما بدا انه بقايا العلم الامريكي، مع تعليق بالانجليزية يقول( سوف يتم انشاؤها)، في اشارة واضحة الى (الدولة الاسلامية) التي كانت قد اعلنت قيام “الخلافة” في التاسع والعشرين من يونيو من ذات العام .
وبعدها بيومين، عاد محمد لتغيير صورة الغلاف بصورة له وهو بعد طفل صغير، وهي الصورة التي ظلت على غلاف صفحته بالفيسبوك منذ ذلك التاريخ، فيبدو انه لم يعد يكثر الزيارات لصفحته على الفيسبوك التي اخذت تخلو من اي اشارات لاهتمام بمجموعات فنية او رياضية، على عكس صفحة زميله في الجامعة ورفيق رحلته الى داعش (ابراهيم) الذي تضم صفحته اهتمامات متعددة بداية من صورة الغلاف الرياضية التي يضعها، مرورا باعجابه بفريق مانشستر يونايتد الانجليزي وحتى وضعه علامات الاعجاب بعشرات الفنانين والفرق الغنائية مثل المغنيتان بيونسيه ورفيقتها السمراء ريحانا.
كان محمد قد بدأ دراسة الطب في جامعة العلوم الطبية (مأمون حميدة) قبلها بسنتين، وقضى فترة دراسية بالمملكة العربية السعودية حيث كان يقيم.
تكشف صفحة محمد على الفيسبوك عن طالب ينشر معظم كتاباته فيها باللغة الانجليزية، وتوقف عن الكتابة فيها في منتصف العام 2013 ليعود بعدها بعام ويضع بضع صور له الى ان توقف عن تحديث صفحته تماما في اغسطس من العام 2014.
لم تكن كتابات (محمد) على الفيسبوك تحمل اي دلالة على التطرف او التشدد الديني في بداياتها ، بل كانت منشورات عادية كغيره من الشباب في سنه ، فمعظم منشوراته قبل عام 2012 عبارة عن تسجيلات فيديو وكتابات تشجيعية لفريق الارسنال، وفي احداها يصف نجمة الغناء مادونا بأنها اسطورة.
وبعد دخوله لجامعة العلوم الطبية في 2012 ، كتب محمد على صفحته بانه يحاول ان يكون (شخصا افضل)، وبعدها بيومين فقط كتب على صفحته بانه اعتبارا من الان سيقوم بكتابة حديث نبوي يوميا انطلاقا مما يقرأه خلال اليوم، وعلق بعدها قائلا انه قرأ 50 حديثا نبويا خلال يوم واحد، مما دفع احد اصدقائه ليرد عليه في الصفحة قائلا : يبدو انك لم تكن تمزح حينما قلت بانك تحاول ان تكون شخصا افضل.
اللافت ان محمد كان يستعمل اللغة الانجليزية حتى في كتابة الاحاديث النبوية، ولكنه يبدو انه لم يستطع ان يواصل في كتابة الاحاديث بصورة يومية .
لم يبذل محمد (س) اي جهد لاخفاء تغيير مساره نحو التشدد ، بحيث امكن ملاحظة ذلك من مجرد متابعة تسلسل صفحته بالفيسبوك كما رصدت(ألوان)، ولا يحتاج المتابع للقول بان ادارة الجامعة واسر الطلاب ، وزملائهم واصدقائهم، ربما لم يبذلوا ما يجب لمنع سير محمد ورفاقه في رحلتهم مجهولة المصير التي شغلت الناس قبل أيام.
(2)
أيمن أيضا كان من ضمن الطلاب الذين غادروا مع محمد الى داعش، ولكن ايمن يبدو حريصا على عدم وضع الكثير من التفاصيل على صفحته بالفيسبوك، سوى صورة له تظهره ملتحيا، واشارة الى انضمامه لمجموعة نقاش على الانترنت اسمها اهل الاثار وتقبل في عضويتها الذكور دون الاناث، وتبث منشورات دينية اكثرها مصدرها احد الاعضاء السلفيين المقيمين بمدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية.
(3)
على مسار مشابه كان يمضي الشقيقان محمد وابراهيم (ع) الذان كانا مع الشقيقين محمد وحمزة (س) وبقية الطلاب في ذات الرحلة الى داعش.
صفحة محمد بالفيسبوك كانت باللغة الانجليزية، هو وشقيقه ابراهيم من حاملي الجواز البريطاني، و اقاما في مدينة ليستر بالمملكة المتحدة.
في منشور قديم له يسخر محمد من خبر يصف هجمات 11 سبتمبر في أمريكا بأنها من تدبير الحكومة الامريكية، ثم تمضي منشوراته على امتداد الشهور في مواضيع رياضية في غالبها ، ثم كان لافتا انه اورد مقتبسا في اغسطس 2011 يقول فيه ان “الدين يعطينا ما لا يمكن ان يعطينا له اي شخص اخر ولكننا نطارد الدنيا ونتجاهل الاخرة”.
ثم واصل محمد ايراد اخبار الرياضة والفيديوهات الفكاهية، ولم تكن هناك اي اشارة الى الجماعات المتطرفة، فيما وضع فرقة كولد بلاي الموسيقية كاحدى فرقه المفضلة في صفحته.
ابراهيم، شقيق محمد، تبدو صفحته على الفيسبوك كصفحة اخيه، بالانجليزية ومعظمها عن كرة القدم والموسيقى واهتمامات اخرى لكن(ألوان) رصدت له اهتماما مبكرا بالشأن العام، اذ كتب منشورا في العام 2010 داعيا للتضامن مع اهل غزة ، واللافت للنظر، ان إبراهيم منذ التحاقه بجامعة العلوم الطبية في عام 2012 توقف نشاط صفحته على الفيسبوك الا من 5 مواضيع فقط منشورة للعامة ، اخرها مقتبس بالانجليزية بما معناه لا تكونوا كالذين نسوا لله فانساهم انفسهم، كتبه ابراهيم في بداية عام 2014 ثم اوقف نشر كتاباته في الصفحة . وربما تكون دراسة الطب التي تتطلب تفرغا كاملا سببا في قلة نشاط ابراهيم ورفاقه على الفيسبوك، ولكن صفحته تخلو من اي روابط مباشرة للتنظيمات المتشددة ، فيما سجل عضويته في جمعية بيشامب الاسلامية للطلاب في مدينة ليستر حيث كان يقيم، بالاضافة الى وجود صفحة اسمها السنة مختصة بتقديم الاجوبة للاسئلة والمواضيع الاسلامية في منطقة ليستر ايضا. غير ان الاشارة الاهم تاتي من ملاحظة اشتراكه في مجموعة اسمها “سوريا” وتبث منشورات عادية غير ان وسطها تظهر منشورات محرضة، وفي احدها شخص يبدو انه تركي يعرض المساعدة في استخراج تصاريح السفر اللازمة الى تركيا لمن يريد ويترك رقم هاتفه للمتابعة. وثمة صفحة اخرى سجل ابراهيم اعجابه بها مع اكثر من 4 الاف اخرين ، وتدعو لمحاربة “الباطل والبدع والشرك والصوفية” كما تقول في الوصف الموجود عليها.
الخلاصة اذن، ان خروج ابراهيم وشقيقه نحو داعش لم يات فجاة وانما سبقه اهتمام منهما بجوانب اسلامية ربما لم تحسن مصادرها تقديم الدين في جانبه المتسامح لهم ، مع غياب المتابعة الضرورية داخل الجامعة وخارجها.
(4)
أمير ، احد الطلاب الـ12 الذين غادروا فجر الخميس، تبدو صفحته على الفيسبوك عادية تماما، تمتليء باهتماماته الباكرة بالرياضة ايضا وحتى الابراج اليومية، فهو يضع صورة اللاعب الارسنال شامبرلين كغلاف لصفحته، التي توقف عن تجديدها منذ 3 سنوات.
(5)
رفيقهم الآخر في الخروج الى داعش، محمد (ر) له صفحة على الفيسبوك ايضا، تظهر جانبا من شخصيته، ففيها يبدي اعجابه بصفحة سفارة هولندا في الخرطوم، بالاضافة الى صفحة دينية اسمها مفتاح الطريق المستقيم يرتادها عادة المسلمون المقيمون في الغرب من اصول عربية.
المفارقة ان محمد (ر) يقوم بمتابعة مستمرة لصفحة الشيخ عاصم الحكيم، الذي ينشر في صفحته انتقادا قويا لافكار داعش ويعتبر ما تقوم به ضلالا، وعلق الشيخ عاصم الحكيم على حادثة تفجير مسجد الكويت التي تبنتها داعش ودعا لتدمير داعش والارهابيين!
ومن الملاحظ ان الطالب الاخر ابراهيم ايضا يتابع صفحة الشيخ عاصم الحكيم.
(6)
طالب آخر من من مجموعة الطلاب الذين غادروا هو حمزة، وله صفحة عى الفيسبوك تظهره كشاب بريطاني الاهتمامات، من الرياضة الى السفر والفكاهة، وكان له نشاط واضح في نشر الصور والفيديو على صفحته يوميا الى ان توقف عن النشر في عام 2012 ، حيث لم تظهر الا منشورات وضعها على صفحته بعض الاصدقاء ، واخيرا عاد في اغسطس من عام 2014 ليغير صورته الشخصية بصورة لمئذنة احد المساجد ، ثم اتبعها بصورة اخرى جعلها غلافا لصفحته في ذات اليوم، وهي صورة لمكتبة بها مجموعة من الكتب الاسلامية .. مما قد يعطى استنتاجا لبداية اهتماماته الدينية على الفيسبوك ، التي تشير الى اغسطس 2014 ويمكننا ان نطرح تساؤلا عن السر في التحول الذي طرأ على الطلاب المغادرين الى داعش في اغسطس من العام 2014 بالتحديد : فكما رأينا من قبل ، فان محمد (س) عدل صورة غلاف صفحته بصورة تحمل علم داعش في اغسطس 2014 ، بالاضافة الى توقف ابراهيم عن تحديث صفحته في تاريخ قريب من نفس العام 2014 .
حمزة، يتابع في صفحته على الفيسبوك شخصين، احدهما يدعى افتخار احمد ، وله صفحة تقوم بنشر مقتبسات اسلامية وامثال عربية واحادث وايات ، كلها باللغة الانجليزية، والاخر شيخ يدعى يوشا ايفانز، يكتب في مواضيع اسلامية متنوعة ، واللافت للنظر ان اخر مواضيعه المنشورة كان نداء نشره في العشرين من شهر يونيو لمساعدة مستشفيات سوريا، غير انه يضع رابطا للتبرعات ويطلب من زوار الموقع عدم الاشارة الى سوريا باي حال حتى لا يتم تجميد حساب التبرعات !.
حمزة يدير حسابا له على موقع اسك دوت كم حيث يتيح لزوار الموقع ان يسألونه ليجيب عليهم عن الدين والحياة والاهتمامات الاخرى، ويبدو ان اتجاه حمزة للتشدد كان ملحوظا لدى محيطه ، فقد سأله احدهم في الموقع : لماذا تغيرت؟ فاجابه حمزة: لانقذ نفسي من النار.
(7)
اعتاد الكثير من المنضمين لداعش وغيرها اغلاق حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي قبل مغادرتهم، حتى لا يتركوا فرصة للتواصل معهم، ولكن يبدو ان هذه الدفعة التي غادرت الى داعش من جامعة العلوم الطبية والتكنلوجيا لم تكن مهتمة للامر ، او ربما لم تجد له وقتا، وتبقى المعلومات التي تتيحها هذه الصفحات مهمة لكشف بعض تفاصيل ما حدث ، غير ان الروابط المتشعبة لهذه الصفحات، تثير القلق من ظهور دفعات جديدة قد تمضي في طريق المجهول الطويل.
عرض وتقصي: وائل جمال الدين-الوان