جاييكم عن قريب

دخلت عليهم بطلتها البهية الناعمة وملامحها النبيلة تحوي كل حزن الدنيا.. ما أجملها وهي حزينة كما هي على جمال الخالق في أي حالة إنسانية أخرى ولسان حالها «ما أصعب أن تكتشف أن الدنيا بلا وفاء..».. وهي العائدة لتوها من عند بيت البكاء قريب الحبيب لنفسها كيف أن بعض أقرباء المرحوم بدأوا في الحديث بلهف عن توزيع ورثته وهو الذي عاد «عنقريبه للتو».. ولأنها إنسانة معطونة بماء الرومانسية والعواطف لم تحتمل فكرة أنها قد سمعت النقاشات الدائرة عن ممتلكات المرحوم ومن يأخذ ماذا.. ظلت طوال يومها حزينة.. سألوها عن مسحة الاستغراب في ذلك وقد صار الكل مادياً لا يعترف إلا بالمحسوسات لا المعاني… دلفت إلى بيتها… صحبها طيف المرحوم ووجهه الوضيء المليح وكرمه الفياض وأعادت لذهنها رسم تفاصيل ذلك اليوم.. خانها الاحتمال فذرفت دموعها الغالية «والله دنيا يا عبدو.. يا حليل زمن دخلتك.. طلتك روحك الكريمة.. بقيت مجرد موضوع حقي وحقك.. نصيبي ونصيبك.. دنيا أهون من جناح الذباب».. كتمت المشهد في أعماق أعماقها.. نظرت إلى صغيرها بشيء من الأسى وتمثلت حالة غيابها في حال البرزخ الأبدي.. هل سيتدعي هذا الصغير في المحاصصة ملابسها وأشياءها الخاصة.. فإن أرادت أن تلبس أي ثوب تذكرت «يوم العزاء» وسألت نفسها يا ربي ولدي حيعمل شنو بهدومي.. هل سيتصدق بها أم أن إحداهن ستنازعه عليه.. وأن أخرجت حقيبة أو حذاء تذكرت مقاسات قريباتها.. من سيكون من نصيبها هذا الحذاء الذي اشترته في لحظة رغبة حياتية جارفة للتأنق والهندام.. كيف أدى هذا الحذاء دوره في «تطقيمه اللبسة».. مسحت الأفكار السوداء كل التفاصيل في وجهها.. تذكرت أنها كانت قد بدأت محاولات الإدخار من أجل ابنها.. تراجعت المحاولة مع المشاهد السوداوية التي حفظتها عن ظهر قلب في يوم العزاء.. حتى أن حالة الزهد سرت في أوصالها وشرايينها وعصبها.. لم تعد تحفل بزوجها الذي بالتأكيد «حسب ما أصابها من حزن».. لا يختلف عن الباحثين عن الورثة.. وبكل تأكيد سوف لن تترك له «مليماً».. من اليوم سوف تصرف كل ما في الجيب حتى يأتي ما في الغيب.. تغيرت ملامح حياتها صارت كثيرة الصرف لا تترك مليماً في الجيب.. كل يوم هي في حالة «فسحة وترفيه».. ولسان حالها «حد ما خد معاهو حاجة…».. «إن شاء الله قرش ما قعد يللا.. بعد عبدو الكان هيبة».. باءت كل محاولاتهم لإقناعها أن الأمر لا يحتاج لهذا الفرط والتلاهي.. إلا أنها لم تتقبل الفكرة لشدة ما كان الموقف صادماً وحزيناً.. «يا ولد.. قوم أرح نمشي المول.. يلا الحدائق.. يلا الملاهي.. يلا.. يلا..».. وكم كان الصغير فرحاً بهذا التغيير الذي لا يحسب أبعاده ولا يعرف مراميه ولكنه سعيد بإقبال أمه على الحياة حتى وإن داعيها لذلك بالنسبة له مجهول.. أما الضيق الذي أقبل على ظرفهم الاقتصادي في رزنامة التغييرات والأزمات العامة.. حتى وصلت بأسرتها حالة الكفاف.. ووصلت قمة الضائقة.. ومن ثم عادت بها السكرة إلى الفكرة.. وعرفت أنها قوانين الحياة لابد أن تسري.. أن يرثها من يرث وأن تواصل سعيها وصرفها وادخارها.

٭ آخر الكلام:

إنها الحياة.. أن تسعى وتعمل بجد.. لا يهم لمن تذهب مدخوراتك أو حصيلة ما تجتهد فيه.. ما عليك إلا أن تسعى وتترك الزمن يقول كلمته.. «الله يرحمك يا عبدو».. «بس خلوا المراحيم يرقدوا بمهلة..»

(مع محبتي للجميع)

Exit mobile version