أذكر أثناء زيارتي لمدينة ليون الفرنسية في العام 2012 أنني التقيت بعدد كبير من السودانيين، وقد أعدوا لي حفل عشاء احتفائيا خاصا باعتباري كاتبا سودانيا يزور (مدينتهم)، وأكثرهم من الشباب ممن هاجروا بحثا عن حياة أفضل، ولاحظت أن أغلبهم لم يكن له أدنى اهتمامات ثقافية بالمعنى الأدبي – في إطار زيارتي تلك – إلا أنهم كانوا ممتلئين بحب السودان وبآمال حقيقة في علو شأنه وتطوره. قضيت معهم أياما طيبة، ولفت نظري من بينهم ثلاثة أبدوا بعض الاهتمامات الثقافية، الأول اكتشفت لاحقا أنه أحد مثقفي خرطوم الثمانينيات وبداية التسعينيات المعروفين، وهو يتمتع بذائقة نقدية رفيعة، وتناوله للأشياء ينم بالفعل عن ثقافة عالية، والثاني كان فنانا تشكيليا رقيقا له (شوف) جميل للسودان وناسه وفقا لحنينه وأشواقه، وهو رجل ممتع في المجالسة لثراء ذاكرته وملاحظاته الذكية، أما الأخ الثالث فهو الذي حيرني وأدهشني، رغم اطلاعه الواسع وكم معلوماته ومحاولاته الدائمة لتأكيد اختلافه وموسوعيته الثقافية.
أصر هذا الرجل – المثقف الثالث – أن أجلس معه بشكل شبه انفرادي رغم جماعية اللقاء وشكله الاحتفالي – كنت عائدا إلى السودان – وبلغة معقدة ومتخصصة ورفيعة نوعا ما استطاع أن يبعد الآخرين من حولنا وأن نظل سويا ربما لأكثر من ساعتين، تحدث فيهما حول كل شيء بداية من الأدب ومرورا بالتشكيل، إلى إشكالات الدولة السودانية، إلى أزمة الهوية السودانية والتاريخ السوداني، والعلاقات العربية السودانية، والفن السوداني.. كل شيء تقريبا وكانت له آراء وملاحظات أعجبتني وحفزتني للجلوس معه لهذه الفترة الطويلة. في نهاية اللقاء حكى لي بشيء من الفخر عن تجربته ونجاحه في فرنسا إلى أن وصل درجة مترجم أول في منظمة دولية كبرى، وحدثني مطولا عن قيم العمل في فرنسا، ومقارنة هذا مع السودان، وعن فرص النجاح التي يمكن أن تتحقق لكل مجتهد في هذا البلد والكثير من هذا الكلام إلى أن وصلنا بالحديث إلى أسرته فكانت الصدمة!
أخبرني أنه تزوج من سودانية، لأنه لا يقبل الزواج من (خواجية) لا تفهم احتياجاته كسوداني مسلم – عربي، ثم حدثني عن بنتيه، وأن الكبرى الآن على وشك الالتحاق بالمرحلة الثانوية مما يحتم عليه إعادة ترتيب أموره وإعادتهم للسودان حتى تدرس هناك. سألته لماذا؟ فقال مع الكثير من (اللولوة) إن القيم الأوربية لا تناسب بناتنا. فقلت له “مش هي نفس القيم الإيجابية الاتكلمت عنها قبيل؟”. فقال لا، الأمر يختلف ويتعلق هنا بـ (بنت) وتربية وشرف والكثير من الكلام الغامض الذي حيرني وقتها وأصابني حقيقة بالخيبة. هذه حالة فصامية مكتملة تسعى في شوارع أوروبا تبشر بالقيم المتناقضة.
كيف يربي مثل هذا الرجل بناته وأبناءه؟ وكيف يجسر لهم عملية العودة من هناك إلى هنا بهدف الدراسة والاستقرار؟
أي أفكار تلك التي تعشعش في رؤوسهم تجاه تلك البلدان حاملة القيم (الخيرة – الضارة) وهم من تربوا فيها ثم هربوا منها؟