بالرغم من أنه لم يحظى بفرصة لمقابلة مخطوبته، أو حتى محادثتها تلفونيا بصورة مستفيضة، ترد الروح وتبل جزءا من أشواق الوعد بالعشة الصغيرة، منذ سد المال والشيلة الـ (اتناشر اتناشر)، التي سافرت بها أمهاته وأخواته في سيرة لبيت محبوته في الخرطوم، إلا انه لم يخطر على بال (خالد) أي بادرة لسوء الظن، ولم تراود قلبه الشكوك في شح التواصل الذي شاب علاقته بمخطوبته (سهير)، بل حسبه نوع من أنواع الخضوع لبروتكول (حبسة الكجرة) التي تضرب على العروسات، وتحرص النساء في منطقته على قوانينها الصارمة التي تمنع أي محاولة من طرف الخطيب، لرؤية مخطوبته بعد الشروع في تهيأتها لليوم الموعد ..
لم يكن هناك سابق معرفة أو صلة قرابة بين (خالد) و(سهير)، أو أي نوع من التواصل بين أسرتيهما قبل أن يتقدم لخطبتها، فقد تعرف عليها أثناء رحلاته العملية للخرطوم، وذلك لأنها تعمل في قسم المبيعات في الشركة التي يتزود منها بالبضاعة، لمحل الالكترونيات الذي يديره في سوق مدينته، ويدر عليه ربحا معقولا جعله ضمن زمرة المرتاحين ماديا، ان لم يكن من كانزي المال المرطبين ..
لفتت انتباهه بجمالها الهادي وابتسامتها المضيئة، وأسرت نفسه بالخدمات التي كانت تقدمها له، وهو الرجل الريفي الذي تأثره الجمائل ويكبله العرفان بالجميل، وذلك لأنها كانت تسرع لأعانته في اتمام معاملاته بأعجل ما تيسر، حتى يتمكن من اللحاق بالبص ليعود لاهله قبل غروب الشمس ..
رويدا رويدا تبلورت الفكرة في ذهنه، فـ تحسس موضع رجليه على أرضية الرضى بالطرح، عندما لمّح ثم صرّح لـ (سهير) برغبته في الارتباط بها فأبدت القبول، ولكن عندما صارح أمه بتلك الرغبة لكنت الموضوع، وحذرته من مغبة النسب العمياني ومخاطر التورط في زيجة الندامة، واشتكت من عدم وجود مرجعية تعنعن لها أسرة العروس أو تنسبهم لأي من القبيلتين (انس وللا جنس ؟؟):
يا ولدي ديل ناس من بلد ونحنا من بلد .. لا بنعرفم ولا بعرفونا .. حواء وادم ما يلمونا بيهم .. هديل بنات أهلك قدام عينك بضمنهم ليك زي ضمانة بناتي .. أخير ليك يا ولدي جنّا تعرفوا ولا جنّا ما بتعرفوا ؟
بعد طول جدال وملاواة، تمكن (خالد) من انتزاع حقه في حرية الاختيار بعيدا عن قناعات أسرته، ولكي يبث الطمأنينة في قلوبهم أخبرهم بأنه قد سبق وبث عيونه ليستقصى عن سير وسلوك أسرة العروس، فعادوا إليه بما طمأن قلبه لمواصلة الطريق، ولكن تطميناته لم تقنع أمه التي زفرت في قنعان وقالت:
وانت قايل لو في زول عارف عنهم حاجة كعبة بمرق النصيحة .. يا ولدي دا زمن قال فيهو ابونا ود تكتوك البقول النصيحة بموت !
ولكن برغم من كل اللكنات، ولمعرفتهم بقوة رأسه واصراره على تفيذ ما يعقد عليه العزم، وافقت أسرته وذهبوا معه لخطبة (سهير)، ثم وبعد اكتمال التجهيزات حملوا الشيلة لأهل العروسة في سيرة طاعمة ومحضورة، وبعد انتهاء الزيارة حددوا معهم موعدا للزفاف بعد شهرين من تاريخه ..
طوال الفترة التي أعقبت سد المال، لم يحاول (خالد) زيارة (سهير) في بيت أسرتها، احتراما للتقاليد التي تربى عليها والنظام المتبع في منطقته، بالرغم من أن (سهير) انقطعت عن عملها بعد الخطوبة، وهكذا صارت الوسيلة الوحيدة للتواصل بينهم هو الهاتف المحمول، ولكن كان كلما اتصل عليها نهارا تعذرت بالمشغوليات، وحوامة السوق لتكملة المستلزمات، وكلما اتصل عليها ليلا كلفتته وأنهت المكالمة سريعا، بحجة انها تعبانة ومكسرة من مجهود التعليمة لاجادة الرقصات ..
قبل موعد الزفاف المضروب بحوالي الاسبوعين، قرر (خالد) زيارة منزل مخطوبته ليأخذ منها اوراقها الثبوتية، وذلك لانه انتوى اخذها في رحلة عسل خارجية، لكنه لم يخبرها بموعد زيارته وفكّر أن يجعلها مفاجأة .. سافر للخرطوم وقضى يومه في انجاز بعض الترتيبات ثم توجه لمنزل نسابته الجداد قبيل الغروب ..
لم يلفت انتباهه أن باب المنزل الكبير كان مفتوحا على مصرعيه، ولكن ما حزّ في نفسه طريقة استقبال والدها له، فقد شعر وكأن الرجل (انخلع) من رؤيته حتى أنه نسي أن يطلب منه التفضل بالدخول، وما ان عتّب برجليه خشم الباب حتى جقلب واضطرب كل من كان في الحوش ..
جلس محتارا وهو ينظر حوله لجموع الضيوف .. العجل المربوط في جزع النيمة التي تتوسط الحوش .. الشباب الذين كانوا يقومون بإنزال شوالات الخضار من على ظهر بوكس، وقبل أن يهم بفتح فمه ويسأل أبو النسب:
مالكم ان شاء الله خير ؟.. شكلو عندكم مناسبة !!
اجابه الرجل في تحفز:
والله يا خالد ولدي العرس قسمة ونصيب .. نسوي شنو أكان القسمة ما ادتك ؟ سهير دي جا ود عمها وحلف ما تفوتو وهسي حددنا بكرة العرس .. الله يعوضك بالاحسن منها !!
دار رأس (خالد) ولم يستوعب الامر، وغادر بيت نسابته مذهولا غير قادر على الكلام، وعندما عاد لأهله حدثهم بفعلة نسابته، الذين لم يكتفوا بجريرة الخطبة فوق الخطبة ولكن استحلّوا ماله لتزويج ابنتهم لمن يرغبون ..
دعاه البعض بأن لا يحزن عليها فهي لا تستاهله، وواساه البعض بـ (بركة البقت على كدي .. الجاتك في سد مالك سامحتك)