> التسوية السياسية التي شهدتها دولة الجنوب، بانعقاد مجلس التحرير للحركة الشعبية ومكتبها السياسي أول من أمس، وإعادة باقان أموم إلى منصبه السابق أميناً عاماً بعد اعتقاله ثم خروجه معارضاً، تُعد حدثاً مهماً لابد من النظر إليه بعمق ومعرفة مداه وأبعاده وانعكاساته على طبيعة الوضع في دولة الجنوب التي تعاني من حرب ضروس بين رفقاء الأمس أعداء اليوم، وما يترتب على هذا المُعطى الجديد بشأن العلاقة مع السودان، الدولة الأم والجار الشمالي.
> ويجدر بنا قراءة ما جرى خلال الأيام الماضية في دولة الجنوب، قراءة دقيقة وفاحصة، ومراقبة ما إذا كانت هذه التحولات في داخل الحركة الشعبية سيكون لها ما بعدها، وربما تصنع واقعاً جديداً لم يكن متخيلاً أو منتظراً..
> والمتابع للأوضاع في دولة الجنوب، يُدرك أنه عقب تمرد د.رياك مشار وبعد الإعلان عن انقلاب في جوبا يوم 15/12/2013م، واعتقال باقان أموم ومجموعته التي تضم بعض قيادات الصف الأول في الحركة الشعبية وكبار المسؤولين في الحكومة، إنه انتهت بتلك الحادثة عملياً فاعلية الحركة الشعبية كحزب حاكم، بعد أن ضربها الانقسام والاستقطاب الحاد، وأحدثت الحرب الدامية التي وقعت منذ ذلك التاريخ ولا تزال، خلخلة ضخمة في صفوفها، وتضعضع الوضع في الدولة الوليدة الى درجة الإحباط المطلق للدوائر الغربية التي كان لها الدور الأكبر في ولادتها المتعثرة، وتدخلت أطراف أقليمية ودولية كثيرة للبحث عن تسوية ما، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. وأفلحت الضغوط الخارجية في إطلاق سراح مجموعة باقان بعد أسابيع من الاعتقال مع انطلاق مفاوضات أديس أبابا بين حكومة سلفا كير والمعارضة الرئيسة التي يقودها نائبه السابق د. رياك مشار تحت رعاية منبر الإيقاد..
> معلوم أن المجموعة التي أُفرج عنها بقيادة باقان وغادرت خارج جوبا، لم تنضم لمشار لأسباب موضوعية تتلخص في إرث وتاريخ عدائي مستحكم بين هذه المجموعة وقائد التمرد رياك مشار، كذلك لم تسعَ لتطبيع العلاقة من جديد مع رئيس الدولة والحركة سلفا كير ميارديت، وآثرت هذه المجموعة أن تكون طرفاً ثالثاً يتحين الفرصة المناسبة لوراثة الدولة والحركة الشعبية، ووضعت حسابات دقيقة تجعل منها الرابح الأكبر في حال استمرار الصراع بين مجموعتي سلفا ومشار، وراهنت رهانات محددة على صيرورة حتمية بعودتها في النهاية بعد أن تنهك الحرب كلا الطرفين، لتجد كل ثمرة دانية جاهزة للقِطاف.
> واتضح بعد أشهر من اندلاع الحرب، أن هناك مسارين لا ثالث لهما في المعادلات السياسية، وطرق معالجة الأوضاع المتردية في دولة الجنوب. فالمسار الأول كان هو المفاوضات الرسمية التي تجري برعاية إيقاد لإنهاء الحرب بين الحكومة في جوبا ومعارضيها في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، والمسار الثاني كان في مدينة أروشا بتنزانيا، وهو مسار محصور في إصلاح الوضع الداخلي للحركة الشعبية وتوحيدها من جديد بعد انفلاقها لثلاث مجموعات رئيسة.
> وجدت مجموعة باقان نفسها في سلة المسار الثاني، ونجح المسار الثاني بتوقيع اتفاقية أروشا في 15/1/2015م، بحضور رؤساء تنزانيا وجنوب أفريقيا وأوغندا وكينيا والرئيس سلفا كير وخصمه رياك مشار. ويلاحظ هنا أن هذه الاتفاقية ولدت بضغط من البلدان الأفريقية المشاركة فيها، وكانت تُمهِّد أو قُل تُعنى بحل الخلافات داخل الحركة الشعبية وتوحيدها كحزب حاكم، حتى تتمكن من حل بقية الخلافات العميقة داخل دولة الجنوب، وعلى العكس تماماً كانت الدول الغربية خاصة دول الترويكا (الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج)، ترى أن اتفاقية أروشا لا يمكن أن تصنع السلام في دولة الجنوب، لكنها في أحسن الفرضيات قد تُسهم فيه. وظلت هذه الدول متحمسة للمسار التفاوضي الأول في أديس أبابا.
> والتقطت مجموعة باقان اتفاقية أروشا، وفصَّلتها على مقاسها، وعملت مع عدة جهات إقليمية ودولية على تفضيلها وتقديمها على مفاوضات أديس أبابا المتعثرة أصلاً، خاصة بعد فشل آخر جولاتها في 5مارس 2015م، وقد أعلنت يومذاك رئاسة المنبر التفاوضي على لسان سيوم مسفن أن الأطراف الجنوبية غير جادة ولابد من توسيع المنبر التفاوضي ليضم أطرافاً أخري بالإضافة إلى ضرورة قيام الإيقاد بوضع مسودة اتفاق توقع عليه الأطراف المتحاربة وقد جهزت بالفعل ووافقت عليها مجموعة باقان كذلك مستبقة الطرفين الرئيسيين،
> واستثمرت مجموعة باقان ضبابية وضعف الموقف السياسي العام في الجنوب خاصة مجموعة مشار رغم قوتها العسكرية، واقتنص باقان ورهطه اللحظة المناسبة واستفادوا من اتصالاتهم وتواصلهم مع جهات في الداخل الجنوبي وفي الإقليم وبعض القوى الدولية لإتمام تسوية سياسية تقوم على اتفاقية أروشا والعودة الى الحركة الشعبية وإصلاحها وتقويتها، ثم البحث عن سلام.. بالمقابل توصل سلفا كير ومجموعته الى أنههم بحاجة الى لاعب سياسي محترف وسط فريقهم لإعادة النشاط السياسي الذي أصابه الهزال والضعف، وانعدمت التعبئة السياسية وتعطل الأداء العام..
> فهل يستطيع باقان أن يفعل شيئاً..؟ وما هو الموقف الجديد من السودان بعد عودته..؟
نواصل في الحلقة المقبلة…