هل بربكم من دليل على أننا نخبط خبط العشواء ونحتقر منهج التخطيط في أجهزة الدولة ومؤسساتها ونسير بلا هدىً ولا كتاب منير أكبر من أن يتردّى واقعنا الصحي لدرجة أن يصبح عدد الأطباء أكبر من عدد الممرضين بنسبة 6 إلى 1 بما يعنى أن هناك ستة أطباء في مقابل ممرض واحد؟!.
ذلك ما كشفت عنه نقابة المهن الطبية التي تحدثت عن نقص حاد في الكوادر الطبية المساعدة.
الوضع الطبيعي الجاري في كل العالم أن يحدث العكس تماماً بما يجعل عدد الكوادر الطبية المساعدة ستة في مقابل كل طبيب ولكن مهنة الطبيب تردت في بلادنا وذلّت بعد أن كانت ذات يوم تعبّر عن المجد والعظمة والمركز الاجتماعي الأمر الذي أدى الى أن تتكاثر كلياتها كالفطر في القطاعين العام والخاص مما أزرى بها وجعل الآلاف من الأطباء عاطلين عن العمل وحتى من حصلوا على وظائف في الدولة يتكففون أهليهم طلباً لما يسد رمقهم وحاجتهم من مطلوبات الحياة بعد أن أصبح راتب الطبيب أقل من راتب الشغالة الأجنبية التي لا تصرف قرشاً واحداً منه وإنما تعتمد اعتماداً كاملاً على الأسر التي تعمل معها في معاشها وبقية احتياجاتها.
طالب الطب (العبقري) الذي يدخل الكلية بنسبة قد تبلغ 97% في جامعة الخرطوم مثلاً يتعاطى أقل من ألف جنيه في الشهر وحتى (عطية المزيّن) هذه لا يتلقاها إلا بعد انتظار طويل في صف الامتياز ثم الخدمة الوطنية فهل بربكم من احتقار لحق بهذه المهنة الإنسانية التي كانت ذات يوم هي الأعظم احتراماً وتوقيراً في المجتمع؟.
بالرغم من ذلك لايزال المجتمع يتهافت على مهنة الطب ويتدافع المستثمرون بالمناكب في سبيل الحصول على تصاديق لإنشاء كليات جديدة وأسوأ من ذلك أن الدولة لا تبالي بل تمضي في فتح المزيد من الكليات وتوسيع فرص القبول في الجامعات التي انتشرت – والحمد لله – في شتى أنحاء السودان.
بالله عليكم ماذا كان سيحدث لولا أن السعودية ودول الخليج فتحت أذرعها لاستقبال الآلاف من أطبائنا حتى من حديثي التخرج ولماذا تعاني تلك الدول أصلاً من نقص كهذا في الأطباء حتى تستقبل أطباءنا بهذه الكثافة بينما نعاني نحن (الفقراء) من التخمة؟!.
الإجابة لا تحتاج إلى اجتهاد، فبالرغم من أن القائمين على الأمر في التعليم العالي يعلمون أكثر مما أعلم إلا أن الأزمة ظلت تتفاقم وظل المسؤولون عاجزين عن التعامل مع المشكلة.
إذا كان بعض المتحذلقين يهرفون بكلام لن يقنع أحداً – على الأقل في السودان – ويقولون إن التعليم هدف في حد ذاته وأن الإنسان يتعلم لا للحصول على عائد مادي أو وظيفة فإنهم لن يستطيعوا تنزيل هذا المنطق على مهنة الطب فما من طالب يتعلم الطب لكي يصبح عالماً بالطب فقط إنما لكي يعالج الناس ويحقق كسباً لذاته ولمجتمعه.. الآن وقد بلغت مهنة الطب هذا الدرك السحيق وأصبح الأطباء (على قفا من يشيل) فماذا علينا أن نفعل؟.
شكت بعض الجامعات في بعض السنوات (الخرطوم مثلاً) أن عدد طالبات الطب بلغت نسبتهن أكثر من 70% من المقبولين في وقت وجد القائمون على الأمر أن نسبة من يباشر العمل من الطبيبات أقل كثيراً من الرجال بسبب الزواج والأمومة ورغم ذلك عجز القائمون على أمر التعليم عن معالجة المشكلة بالرغم من أن مطلوبات القبول في الجامعة الإسلامية أعلى بالنسبة لكلية طب البنات من نسبة كلية طب الأولاد لأن الكليتين منفصلتان مما سهل القرار.
مشكلات التعليم بصورة عامة بما في ذلك مهنة الطب هل هي ناشئة عن ضعف أو انعدام التخطيط مثلاً أم هي متعلقة بضعف القرار والعجز عن اتخاذه خوفاً من ردود الفعل؟ هل مثلاً هناك مطلوبات معينة لأية جامعة خاصة بمجرد أن تتوافر تمنح رخصة لإنشاء كلية طب أم أن هناك معالجة أخرى تعجز الدولة ممثلة في وزارة التعليم العالي عن اتخاذها بوقف الترخيص حتى يقل عدد خريجي الطب عن الألفين مثلا في العام الذي قد يكون هو العدد المطلوب للخريجين الذين تحتاج اليهم الدولة كل عام؟.
هل من حق وزارة التعليم العالي أن تضع شروطاً تقلل فيها عدد المقبولين للطب في القطاعين العام والخاص مثل ألا تقل نسبة القبول لكلية الطب عن 80% مثلاً؟ ما هي بالله عليكم المعايير التي نفرق بها بين طبيب دخل كلية طب بنسبة 97% وآخر دخل كليته الخاصة بنسبة 60% مثلاً مع رسوب في بعض المواد العلمية؟.
المشكلة أكبر من طرحها في هذه العجالة وهي واحدة من مئات المشكلات المحيطة بالتعليم الجامعي بل بحياتنا ومرافقنا كلها ولا أحد يعيرها اهتماماً ربما بسبب عدم الاستقرار السياسي والتعديلات الوزارية وغير ذلك.. مثال آخر عن مأساة كلية أخرى يعبر عنه السؤال.. هل يجوز أن يخضع خريج الإعلام بعد تسلمه لشهادته الجامعية لامتحان القيد الصحفي وأليس هذا مبررا لإغلاق الجامعات أو تعليق التخرج منها حتى يجتاز الطالب امتحان القيد الصحفي؟!.