حطّمت طائرة الرئيس السوداني، عمر البشير، بهبوطها في مطار الخرطوم، يوم الإثنين الماضي، 15 يونيو/ حزيران، المذكرة الصادرة بأمر اعتقاله في أثناء حضوره القمة الأفريقية الخامسة والعشرين في جوهانسبرغ.
قدّمت المذكّرة إحدى منظمات حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا، ملتمسة من محكمة بريتوريا العليا إصدار أمر لحكومة جنوب أفريقيا بمنع البشير من مغادرة البلاد وإلقاء القبض عليه، لتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية. وفي أمر الاعتقال هذا، تجديدٌ لمذكرة المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرتها عام 2009، متهمة الرئيس البشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وتتعلق الاتهامات بالصراع في دارفور منذ 2003، والذي أدى إلى مقتل آلاف الأشخاص، وتشريد الملايين.
كان احتمال اعتقال البشير كبيراً، وفقاً لتصريحات المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، لأنّ جنوب أفريقيا تخضع لالتزام قانون روما بالقبض عليه، وتسليمه للمحكمة. وآملة، في الوقت نفسه، بأنّه عند القبض عليه، ينبغي إحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية التي أُحيلت إليها قضيته من مجلس الأمن عام 2005.
لا يكلّ الرئيس السوداني عمر البشير ولا يملّ الأسفار، منذ أعلنت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتها عام 2009. وبهذه الحركة الدائبة جرّ مشكلات كثيرة أوقعت الشعب السوداني في موقف أخلاقي، من تقييم كثير من مواقف الدول التي تُحرِج البلاد في شخصه.
لم يتوان البشير عن السفر إلى جنوب أفريقيا، بحمايةٍ وفرّها له الاتحاد الأفريقي، كونه ضيفاً تحت مظلته. وكأنّ البشير لا يدري أنّ الاتحاد نفسه بحاجة إلى حماية، وهو يضم نحو 43 دولة وقّعت على اتفاقية روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية التي أُنشئت عام 1993. ومنذ ذلك الوقت، وجهّت المحكمة الجنائية الدولية تهماً لثلاثين شخصاً، ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في ثماني دول أفريقية، هي الكونغو الديموقراطية، جمهورية أفريقيا الوسطى، أوغندا، السودان، كينيا، ليبيا، ساحل العاج، مالي.
ولعل التحقيقات التي فُتحت في جمهورية الكونغو الديموقراطية وأفريقيا الوسطى ومالي وأوغندا، وجاءت بطلب من هذه الدول، بوصفها موقعة على اتفاقية روما، تختلف عن القضايا المتعلقة بالسودان وليبيا، والتي تم فتحها بطلب من مجلس الأمن الدولي، لأنّهما غير موقعتين على الاتفاق. وبالإضافة إلى أنّ الاتحاد الأفريقي يضمّ، من بين أعضائه، أكثر الرؤساء ديكتاتورية في العالم، فإنّه يتسنّم رئاسته حالياً الرئيس روبرت موغابي، الذي يمكث في سدة الحكم في زمبابوي منذ 1987، ثم سعى بعدها إلى تمديد مدة إقامته على رأس الحكومة، بعد تعديل الدستور لإطالة فترة حكمه الذي حوّل البلاد إلى مستنقع من الفساد السياسي والاقتصادي.
ليس هذا هو الهروب الكبير الوحيد بالنسبة للرئيس السوداني عمر البشير، على الأقلّ أفريقيّاً، فقد تعرّض للتوقيف في العاصمة النيجيرية، أبوجا، التي غادرها قبل إكمال جلسات القمة الأفريقية المخصصة لمناقشة أمراض الملاريا والإيدز والسل في أفريقيا، وذلك في يوليو/ تموز 2013. وقد تحركت أيضاً المنظمات الحقوقية النيجيرية، آنذاك، وحثت إدارة الرئيس النيجيري السابق، جودلاك جوناثان، قبل زيارة الرئيس السوداني بالالتزام بتعهداتها، باعتقاله فور وصوله، تنفيذاً لمذكرة المحكمة الجنائية الدولية.
ومثلما اعتبرت منظمة هيومن رايتس ووتش أنّ زيارة البشير نيجيريا تمثل امتحاناً حقيقياً لالتزام نيجيريا بقرارات المحكمة الجنائية، ها هي تعبّر، أيضاً، بأنّ مجرد السماح للرئيس البشير بالذهاب إلى جنوب أفريقيا، من دون اعتقاله، يمثّل وصمة كبرى في سمعتها، وتستغرب من أنّ الالتزامات القانونية لجنوب أفريقيا كعضو في المحكمة الجنائية الدولية، من المفترض أن تعني التعاون لاعتقال البشير، وليس التواطؤ معه في ترتيب هروبه.
ومن هذا الخندق للجنائية الدولية في أفريقيا، تردد الرئيسان السوداني عمر البشير والمصري عبد الفتاح السيسي، في الذهاب إلى جوهانسبرغ. لم يحتمل الأخير وصم الشارع الأفريقي له بالرئيس الدموي الذي يعتقل الشرفاء، وينكل بالمعارضين، وهي أفريقيا نفسها التي كلما حاول الاقتراب منها زادته صدّاً وبعداً، فاتخذ قراره بعدم الذهاب، خصوصاً بعد التظاهرات في جوهانسبرغ المنادية بتسليمه للمحكمة، بتهم الإبادة الجماعية. أما الرئيس البشير فأخذ الأمر كتحدٍ، ما دعاه إلى خوض المغامرة، غير مكترث بما يمكن أن تجرّه له، وللبلد الذي يمثّله.
الأكثر مدعاة للإثارة والتوقف أنّ الرئيسين، السوداني والمصري، يفقدان بوصلتهما شيئاً فشيئاً. يناضل البشير من أجل كسب البوصلة العربية، بعد أن فقد اتجاهه الأفريقي، وتعاطف الاتحاد الأفريقي معه. ويبدأ السيسي من حيث انتهى البشير، فبعد أن فقد الدعم العربي، وبهتت العطايا التي كان يريدها من الخليج، بدأ يتلمّس الطريق إلى أفريقيا. ولكن، لا الدول الأفريقية، على مستوى حكامها الديكتاتوريين، أو على مستوى شعوبها المنكوبة بهذه العهود الجاثمة على صدرها، وكاتمة أنفاسها، لديهم الصبر في عقد تجارب التقارب هذه، ولا الدول العربية لديها استعداد للاحتفاء بهما.
تسبّب البشير بمشكلة لنفسه ولبلده وللقمة الأفريقية والدولة المضيفة، وهذه مجموعة مشكلات تتجاوز مسألة الحرج إلى الوقوف أمام حسابات دولية وإقليمية كبيرة. ولا تنحصر، كما يعتقد، وهو في أسوأ مطاردة حدثت لرئيس سوداني، في نقطة إقلاع طائرته التي أبرزت معها وضعاً أمنياً إضافياً أجبر مضيفه، جاكوب زوما، إلى نقلها من مطار تامبو الجنوب أفريقي الدولي إلى قاعدة وتركلوف العسكرية.
كان على الرئيس الجنوب أفريقي عدم التدخل في الإجراءات القضائية المستقلة، وفي الوقت نفسه، كان عليه ترتيب إخراج الرئيس السوداني من البلاد بسرعة، لأنّه لو تم القبض عليه هناك، سيكون الوضع أكثر سوءاً لجنوب أفريقيا. ويتضح، هنا، أنّ حماية زوما البشير ليس بالحرص على شخصه، ولكن لأنّ الاعتقال كان سيوقع الرئيس الجنوب أفريقي ودولته في مصاعب شتى. فمن الناحية الإقليمية، تتراءى لجنوب أفريقيا قيادة القارة، بوصفها مثالاً للدولة الديمقراطية التي تتمتع بسند شعبي، على اتساع القارة الأفريقية، كما تتمتع بالتعاطف، كونها بلد أيقونة التحرر الأفريقية، نيلسون مانديلا، والتي ما زالت تحمل عبء ذكرى الأبارتهايد والتمييز العنصري، جنباً إلى جنب مع قصة نضاله. فلا بد لجنوب أفريقيا أن تضع اعتباراً لحماية دول القارة، والتعاطف مع شعوبها المظلومة. ولا تجازف دولةٌ، مثل جنوب أفريقيا، بسمعتها الدولية، ووضعها القيادي للقارة، وفي الوقت نفسه، تحاول الظهور بمظهر الدولة المعافاة من علاقاتها مع النُظم الديكتاتورية.
أما الفائدة الكبرى التي يمكن أن تكون قد تحققت، بشكل خاص، لشعبي وادي النيل، على الرغم من تخلّف الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن حضور القمة الأفريقية، وهروب الرئيس السوداني، عمر البشير، قبل إلقاء كلمته، فتظهر في قوة التحرك وقيمة الفعل بالاحتجاج الشعبي، ونشاط منظمات المجتمع المدني، حتى لو كانت خارج حدود الدولتين الموبوءتين بمثل هؤلاء الحكّام.
سيحتفظ أرشيف الصور التذكارية للقمة الأفريقية بمظاهر التوتر التي اعتلت وجوه القادة، وأغلبهم من الديكتاتوريين القدامى، وهي كالحة من فرط الرعب. كما سيحفظ لهم التاريخ انقسامهم إزاء قرار اعتقال البشير إلى قسمين، أحدهما مؤيد للاعتقال، والآخر صامت خوفاً من أن يلقى المصير نفسه.