تُجرّم الثقافة الغربية ضرب الأطفال، لاسيَّما تلاميذ المدارس، فإن كان محرما عندهم ضرب الأبوين لأبنائهم، فمن باب أولى عندهم تجريم ضربهم في المدارس بواسطة معلميهم.. ففي بريطانيا تنتزع السلطات الأطفال من آبائهم إن أوسعوهم ضربا، فهما في نظرها غير جديرين بتربيتهم، وما على الطفل الذي يـملّك رقما للطوارئ، إلا رفع سماعة التلفون شاكيا أبويه للسلطات المعنية فيأتيه المدد حاميا ومنقذا. واليوم أخذت ثقافة تحريم الضرب تنتشر في الشرق حيث فضاءنا العربي الممتد، بل أخذ التقنين لهذه الثقافة يلتمس مسارا تشريعيا متزايدا، وإن أراد مسؤول أن يرفع خسيسته فليجهر عاليا بمعارضته لعادة الضرب، فحينها يبدو رجلا متحضرا آخذا بأسباب المدنية والرُقي.
في السودان ينتشر الضرب في المدارس وكأن للمعلم حقا أصيلا في أن يفعل ما يشاء في التلميذ مهما كان غضا رقيقا.. والمحظور فقط كسر العظم، فكل ولي أمر يأتي بابنه للمدرسة ولسان حاله يقول لمعلميه: (هذا ابني فلكم اللحم ولنا العظم)، أي أضربوه كما تشاءون لكن أتركوا العظم. ويظن الأب المسكين أن العقاب بالضرب هو وسيلة وحيدة ليتشرب الطفل بثقافة مجتمعه ويتطبع على أعرافه.
أخيرا وربما على استحياء يقول وزير التربية بولاية الخرطوم إنهم يسعون لإيجاد بدائل جديدة لعقوبة الضرب واستنباط عقوبات أخرى في حال وقوع أخطاء من قبل التلاميذ. وأضاف أنه “يجب أن تتشكل لدى المعلمين والناس قناعات حقيقية للإيمان بالتعزيز الإيجابي في تغيير السلوك ليكون ثقافة عامة”.
وليس الخلاف قطعا في مبدأ العقاب وإنما في نوعه ودرجته، فالعقاب لغة يعني الإرشاد، والإنذار. كما يعني أيضا الجزاء الذي يناله أو يستحقه الفرد المذنب. بيد أن مفهوم العقاب والثواب وجهان لفعل واحد فلا يجوز ممارسة الثواب دون ممارسة العقاب في الوقت ذاته. فضلا عن أن حرمان المسيء من العقاب يعادل حرمان المحسن من المكافأة وتخطئ التربية الحديثة إذ هونت من قيمة العقاب. لكن ما يغيب عن الكثيرين أن العقاب وسيلة يُلجأ إليها عندما تُلح المشكلة ويصعب حلها. وليس بالطبع العقاب الجسدي الذي تندرج ضمنه كل أشكال الضرب المبرح وحتى غير المبرح. والأجدر أن نعاقب أطفالنا حيث نثقفهم فأصل الثَّقف الحذق في إدراك الشيء وفعله والبصر بالأمور.
وليس خافيا أن العنف عند الطفل لهو طبيعة سيكولوجية يكشف معادلة “أنا عنيف لأنهم يعاقبونني”، وسواء تم هذا العقاب بصورة سليمة تقتضي التأديب والنهي، أو بصورة غير سليمة تكون لها من الآثار ما يمتد إلى سنوات متأخرة من عمر الفرد. ويختزن الطفل في ذاكرته مواقف العقاب الجسدي الذي يعتبره حيفا ضد شخصه الصغذاته الغضة، ليعيد إنتاجه في مراحل عمرية لاحقة ضد الآخر.
وربما التجارب المريرة السابقة هي التي جعلت الغرب يأخذ مواقف متشددة من العقاب، فحتى القرن الثامن عشر الميلادي كانت نسبة وفيات الأطفال كبيرة جدا نتيجة عدة ظروف من بينها العقاب وسوء المعاملة. بل إن الطاعة العمياء كانت هدفا أساسيا للمؤسسات التربوية في القرون الوسطى، حيث كان اعتمادها العقاب أهم وسيلة لتمرير العملية التربوية.
وقد كان لجون لوك جون لوك (1632 – 1704) وهو فيلسوف تجريبي وفكر سياسي إنجليزي موقفا عبر عنه من خلال أفكاره التربوية بقوله:”إن العقوبات المطبقة في المجال المدرسي ليست فقط غير مثمرة لأنها تنسى بسرعة إنما أيضا محفوفة بالمخاطر لأنها تدفع الطفل إلى مقت ما يجب أن يحبه”.
تجربتي الشخصية مع أطفالي الذين تحولوا من فضاء الثقافة الشرقية إلى فضاء الثقافة الغربية، أنهم تحولوا من كارهين للمدرسة إلى محبين لها حتى الثمالة.. الغريب أن بنتي تغير سلوكها بشكل سلبي في البداية لشعورها بأن العقاب الجسدي لا خوف منه، إذ تحولت من تلميذة مطيعة وهادئة في ظل ثقافة الضرب، إلى عنيدة وكثيرة الحركة في ظل ثقافة اللا ضرب. بيد أن ذلك كان مرحلة قصيرة، فبعد صبر وجهد ليس بالمضني من معلمتها الانجليزية عادت المفعوصة لطبيعتها الهادئة والمطيعة.. والفرق أنه في الحالة الأولى كان سلوكها الإيجابي تحت تهديد “السلاح” أو الضرب، بينما كان ذات السلوك الإيجابي في ظل الترغيب والتحفيز. فتلكم سياسة تربوية تجعل التعلم مغامرة حية ومثيرة زاخرة بالمعنى، حيث تدغدغ الفضول والاهتمام، خلافا للتعليم الذي يتصف بالرقابة المشددة والعقاب الجسدي، فذلك يطمس لهفة الأطفال إلـى المدرســة.