خروج علي عثمان طه من دائرة الفعل السياسي..!!

هل خسر “الوطني” بإبتعاد “شيخ علي” عن النشاط اليومي؟
هادئ.. بارد ومقل في حديثه.. وبراغماتي بامتياز
تنحيه لم يزدْ الآلة الصحفية إلّا شراهة لتلقي أخباره التي تسمق فوق كل العناوين
يتصدر قائمة الإسلاميين النجباء.. والعاقين كذلك
لا شي يرفع حاجب الدهشة حين النطق باسم طه، سوى المواقف الداعمة للرئيس البشير

حين أذاع التلفزيون الرسمي أخيراً التشكيل الحكومي، اشرأبت الأعناق نواحي اسم “الشيخ” علي عثمان محمد طه. كثيرون توقعوا عودة الرجل بعد غيبة استمرت لعامين، لكن القائمة الطويلة التي انسدلت في الشاشة البلورية وحوت تحشيداً غير مسبوق بأسماء لم يسبق وأن طرقت أسماع الناس، استمرأت فيما يبدو غياب طه عن (الكادر).

 

(2)
الحقيقة الظاهرة بلا مواربة تقول إن علي عثمان طه خارج التشكيل الحكومي، كما وفاته قطار الترشيحات الخاص بقيادة البرلمان؛ وهي حالة حين تتم قراءتها بما جرى له من إبعاد في العام 2013م، نجدها كفيلة بأن تجعله يتولى إلى الظل. بيد أن الغرابة تكمن في أن الأضواء لم تنحسر مطلقاً عن طه محيلة الظل إلى أضواء كاشفة ما تزال تزود الآلة الصحفية الشرهة بوقود تصريحات تندفع وتسمق فوق كل العناوين، حتى أننا نجد أنفسنا ملزمين باستعارة بيوت سامقة للراحل محمد الحسن سالم حميد، وإلباسها لطه مع بعض التصرف، فالرجل (كان متوظف يا هو طه، وإن متوقف يا هو طه).

 

(3)
في العام 2013م شكل خروج طه الذي كان يشغل وقتها منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، من الطاقم الحكومي مفاجأة من العيار الثقيل. ولكن في العام 2015م غاب طه أيضاً، وحضرت المفاجأة مرة أخرى، وكأنما الرجل قد من (فجائية)، وتالياً سنعرف السبب.

تأسيساً على انتخابات العام 2010م التي كسبها حزب المؤتمر الوطني بفارق مريح عن كل منافسيه الغلاظ الشداد، توقع كثيرون أن تكون انتخابات 2015م التي قرر بعض من حاضري 2010م عدم تدوين أسمائهم في سجلات حضورها؛ توقعوا أن تكون نزهة لحزب خبر السلطة مفصلاً مفصلاً زهاء (26) عاماً حسوماً.

لكن بانتهاء الانتخابات تنامت حالة السخط في أوساط الحزب الحاكم، فتوجه 46% من الناخبين نواحي صندوق الاقتراع لهو مبعث قلق داخل الحزب الذي يرفع الريادة شعاراً له. كيف لا يكون مبعث قلق وقد آن للمعارضة مد رجليها في ذات اللحظة التي كشفت فيها المفوضية عن النتائج.

تفسيرات عديدة سيقت كحوائل محتملة لتدني نسبة التصويت، بعضها تطعن في السجلات، وأخرى تشير إلى سيادة حالة من الاستكانة والاسترخاء بين عضوية المؤتمر الوطني، ومرات يظهر نجم المعارضة، وتارات يقال إنها محض عوامل ذاتية غير معروفة المنشأ وغير منظورة المصب وكانت ألمت بالأهالي. ولكن مع انبعاث كل تلك الطعون اختار بعضهم الطعن في (الفيل) وقالوا إن السبب يكمن في تواري (طه) في الظل.

 

(4)
عدة لجان داخل المؤتمر الوطني ما تزال تكد وتجهد في معرفة أسباب ما جرى في الانتخابات. مؤكد أن هذه اللجان تدرس الأداء الذي قدّمه قادة الحزب الشباب ممن خاض بهم الحزب الانتخابات، ومصيره.

ولأن بعضهم علّق النتيجة في مشجب الشباب دون أن يطرف له جفن، فإن ذلك سمح بنهوض الاحتمال الفيزيائي القائل بأن الأثر يزول بزوال المؤثر. وعليه طالبت بعض الأصوات بإبعاد الشباب وعودة المؤثرين وهنا يطل طه أما الخيار الآخر الذي يتبناه هذا الفريق فكان بالعمل على تطعيم تجربة الشباب بخبرة الشيوخ ليطل من جديد طه. وعليه تكون غيبة ساكن (الرياض) عن دوح الحكومة، مفاجأة، ومفاجأة مدوية.

 

(5)
طه في ملكوته البعيد من السلطة والقريب منها مجذوب إلى محمود درويش، فالدرويش ينشد (قل للغياب نقصتني.. وأنا حضرت لأكملك) عليه ومع غياب طه حضر سؤال مهم عن سر ذلك الغياب؟

أولى الإجابات نستلفها من فيه الرئيس عمر البشير شخصياً، ولكن قبل التنصيص نشير إلى أن عدم ورود اسم طه في العام 2013م تم التسبيب له بإفساح المجال أمام صعود الشباب لتولي المسؤولية، ولاحقاً وراثة حزب المؤتمر الوطني عن وعي وإدارك وليس بمحض استلام (شهادات البحث) الخاصة بالنادي الكاثوليكي. يقول البشير حيال ما يقال إن إبعاده لنائبه الأول من منطقة اتخاذ القرار: (علي عثمان تنحى لإفساح المجال أمام الشباب ولا خلافات بيننا).

وهذا السيناريو فيما يبدوه استمر في انتخابات العام الحالي، لا سيما وأن دعاة التجديد كانت لهم الغلبة في اجتماعات الحزب الحاكم الخاصة بتعيين الحكومة الجديدة.

لكن هذه السيناريوهات المثالية لا تعجب أصحاب القناعات التي تفترض في السياسة إنها لعبة قذرة. وفيما يأتي ننشر لكم بعض هذه السيناريوهات غير المغسولة وتم وضعها كإجابات محتملة لغياب طه عن التشكيل الحكومي.

 

(6)
هناك حديث مكتوم يُنصّب علي عثمان طه قائداً لتيار يعمل على تهديم الوطني بدوافع الانتقام، ومن ضمن حجج هذا الفريق إنقلاب طه على شيخه د. حسن عبد الله الترابي في العام 1999م، فيما تم التعارف عليه بمفاصلة الإسلاميين، مفاصلة تلحق بها وصفة “الشهيرة”، وحقّ لها الشهرة.

وفي المبتدأ يأتي طه في أول قائمة تلاميذ عرّاب الإسلاميين النجباء، والعاقين كذلك. فالترابي من قدم طه ليقود الجبهة الإسلامية داخل برلمان الديمقراطية الثالثة، وفي الوقت الذي ذهب خريج السوربون إلى السجن حبيساً كان طه يتولى كبر انقلاب الإسلاميين وإدارة ملفاتهم مع العسكر.

هذا عن المبتدأ أما الخبر، فإن طه بمجرد انقضاء العشرية الأولى للإنقاذ، اختار الانحياز لأصحاب مذكرة العشرة الشهيرة ممن زلزلزوا عرش الإسلاميين، وقسموهم إلى فسطاطين أحدهما معارض ويستوطن حي “المنشية” بقيادة الترابي، والثاني انحاز لـ “القصر” بقيادة الرئيس عمر البشير، وفي تلك المرحلة اختار طه أن يكون ذراع البشير اليمنى.

إذاً؛ لا يصعبن الربط – لمن أراد- بين مفاصلة 1999م، وضعف المشاركة في انتخابات 2015م بجامع أن علي عثمان طه كان فاعلاً في كلا الحدثين.

 

(7)
هل يمكن أن يكون سيناريو إبعاد طه عن مفاصل الحكم حقيقياً؟ هو سؤال يحتاج –بالطبع- إلى عميق تمحيص وكثير درس.

هناك إدعاءات بأن خشية من جانب الرجل بدأت تتبلور في أدمغة قادة الحاكم، لا سيما وإن إمساكه بكل صغيرة وكبيرة لربما يضع المؤتمر الوطني برمته في ذات محك العام 1999م ولأن سوء الظن من حسن الفطن –على الأقل يحدث ذلك دائماً في السياسة- قد تكون الظنون تراكمت واصبحت مماسة للحقائق بصورة جعلت لا بد من التعاطي الجاد معها.

ليس ذلك وحسب، فعلى أكثر من لسان، جرت انتقادات واسعة لاتفاقية السلام الشامل “نيفاشا” التي مهرها طه بقلمه إنابة عن حكومة السودان وذلك في قبالة رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، د. جون قرنق. انتقادات لم تأت إلّا بعد أن جاس الشيطان في تفاصيل الاتفاقية التي انتهت بانفصال الجنوب، واندلاع الحروب بين الدولتين السلف والخلف، مبينة عن خلافات عميقة بين الخرطوم وجوبا جرى التصالح على تسميتها بـ(قضايا ما بعد الانفصال) ولأن علي عثمان كان المهندس الذي صمم نيفاشا كان السؤال الذي يدفع في وجهه بكل حين: أين المخرج؟ يا سنمار؟.

 

(8)
الخشية ظلت ملازماً طبيعياً لطه حتى وهو بعيد عن الطاقم الحكومي، بسبب ثلاث زيارات، أولاها كانت للدكتور علي الحاج في “بون” الألمانية، وثانيها خصه بها شيخه الترابي في منزله، والأخيرة قام بها شخصياً لأكبر كيان معارض ونعني بالطبع فاروق أبو عيسى. الزيارات الثلاث ما تزال توّلد أسئلة بلا إجابات عن فحوى ما يريده علي عثمان.

وإثر الزيارات اندلق حبر كثيف يحاول اختراق حجب ما تم في اللقاءات المغلقة، ولكن الظاهر الذي يتعاطى معه أهل القانون الذين ينتمي إليهم طه منذ قرر دراسة الحقوق والتدرج في سلك المحاماة، فيقول إن الزيارة الأولى بحثت مسار الحياة السياسية في السودان، والزيارة الثانية كانت ذات طابع ودي وجرت فيها نقاشات عن ترتيبات البيت الإسلامي، أما الثلاثة فكانت لتوسعة ماعون الحوار الوطني ليشمل كل الطيف السياسي.

أما أهل الباطن –إن جاز لنا التعبير- فيذهبون مذاهب شتى بما فيها محاولة ابن حي الديم، إعادة مجده القديم، ليس ذلك وحسب، وإنما العمل ديمومته.

 

(9)
لا شي يرفع حاجب الدهشة حين النطق باسم طه، سوى المواقف الداعمة للرئيس البشير، ولا نعني مواقفه وهو في الحكم، وإنما مواقفه بعد أن ترجل.

لكن دعونا نعود للوراء قليلاً، لنعرف أجواء التقاء طه والبشير، أو النائب الأول والرئيس بعد عقود من تاريخ اللقاء.

يقول المحدثون والمرويات التاريخية، إن البشير سبق طه في الدراسة بمدرسة الخرطوم الثانوية القديمة بعام وكان ذلك في ستينيات القرن المنصرم. وبوقتٍ كان البشير يتحرك بآلة العسكر داخل الكلية الحربية ويملأ كتفه بالدبابير والنياشين توطئة لاستلام الحكم بعد أن انعقد له لواء الإسلاميين في العام 1989م، كان طه يرصع مسيرته بالنجوم فمن داخل كلية القانون جامعة الخرطوم ارتقى لرئاسة اتحاد طلاب “الجميلة ومستحيلة” في العام 1970م وهو عام يمثل ذروة سنام تمكن اليسار من السلطة، ومن ثم تدرج طه في سلك المحاماة كاشفاً عن قدرات كبيرة ساقته لتزعم المعارضة نيابة عن الجبهة الإسلامية، وريثاً لشيخه الترابي الذي تداعت عليه الأحزاب السياسية في دائرة “الصحافة” العام 1986م وحالت دون نشر آرائه مباشرة داخل القبة.

وحين حلت ليلة الثلاثين من يونيو للعام 1989م حلت معها الأصرة بين طه والبشير. ولمعرفة قوة الربط بين الرجلين نجد أن الرئيس البشير تخير طه دوناً عن رفاقه العسكريين لينوب عنه، وذلك بعدما رحل ذراعه اليمين المشير الزبير محمد طه في العام 1998م.

 

(10)
لنعود إلى كيف كانت العلاقة بين الرئيس وأعلى نوابه قدراً بعدما تنحى الأخير في العام 2013م.

التوقعات كانت تشير إلى اتساع الهوة بين طه والبشير، ولكن تلك الآراء تكسرت على نصال حدثين مهمين بموجبهما سارت المياه حيث يشتهي قائد “الشجرة”.

ومع أن طه لا يعرف عنه كثير كلام، وقف يخطب أمام نواب البرلمان حاثاً أياهم بأهمية تمرير تعديلات دستورية أوصى بها الرئيس البشير. وعلى الرغم من سيادة حالة من المخاوف من صعوبات جدية قد تواجه تمرير التعديلات الدستورية أسهمت خطبة طه البرلمانية في تمرير ما أراده الرئيس حتى من دون مداولات، ووسط دوي التكبير والتهليل.

أما الوقفة الأبرز لطه فكانت إبان المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني، حيث وقف طه يخطب بضرورة التمديد للبشير واختياره ممثلاً للحزب الحاكم في انتخابات 2015م، ومما قاله وقتذاك (الظرف الذي تمر به البلاد يفرض أن يستمر البشير في موقعه كرئيس للحزب ورئيس للدولة).

عموماً؛ قيل إن خطبة طه أسهمت في قولبة الوضع بصورة حاسمة لصالح البشير، وحتى أولئك الواقفين في أعراف التجديد واللا تجديد، حسموا خياراتهم وفقاً لمنطق طه، وذلك وسط دوي التكبير والتهليل.
أما الكلمة الأشد التي تختصر علاقات طه والبشير، فكانت قولته إبان انفصال الجنوب: (المتطاولون على البشير سيُقْطَعون بالسيف).

 

(11)
يعرف عن طه هدوءه الشديد، لغته الباردة، وقلة كلامه، لكن الصفة الأبرز لوزير التخطيط الاجتماعي في العام 1993م، ووزير الخارجية في العام 1995م فلا شك إنها (البراغماتية).

فطه يستطيع أن يربك متتبعي مسيرته بمواقف لا تخطر لهم على بال، فهو فارق مدرسة التربية بقيادة الشيخ صادق عبد الماجد لصالح تيار ممارسة الحركة الإسلامية للعمل السياسي بقيادة د. الترابي. ومن ثم فارق الترابي حين تفاصل الإسلاميين بانحيازه الجلي لمعسكر العسكر، وحين توقع الجميع أن ساعة الفصل مع الوطني دقت أخرسهم بممالة البشير بسفور غرائبي.

أخيراً؛ يعرف عن علي عثمان محمد طه تقديمه لتنازلات كبيرة، لا نقصد بحال “نيفاشا” وإنما نتقصد كيف تخلى عن منصبه لجون قرنق في العام 2005م، وكيف ترجل – بمقتضى أقواله- ثانية عن ذات المنصب في العام 2013م لإفساح المجال للشباب، ولكن مع كل تلك التضحيات فإن علي عثمان طه الإسلاموي القح يصطف ولو لمرة وحيدة في خندق الاتحاديين وذلك حين يعرفون أنفسهم بأنهم أول القتلى وآخر من يموت.

 

الخرطوم: مقداد خالد
صحيفة ألصيحة

Exit mobile version