وبعض قيادات الجبهة الإسلامية لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة يتلفحون بأستار الليل قبيل 30/6/1989م يرتبون للانتقال الأكبر والأخطر للحركة الإسلامية السودانية الأكثر تنظيماً في المنطقة، لم يدُر بخلدهم أن “السلطة” التي حملوا أرواحهم على أيديهم من أجل أخراجها من “بين خوف ودم” ستتوارى عنهم بـ”الحجاب”، بعد أن توطدت دعائمها وترسخت أقدامها، وتبتعد عن مضاربهم، حتى لا يعُد نافعاً أن ينادوا في قومهم “أن ردوها علينا”، فلا استعادوها، ولا قدروا عليها “مسحاً بالسوق والأعناق”.
تلك العصبة المؤسسة لنظام حكم الإسلاميين، بدءاً من عرابها “حسن الترابي” ومن آزروه انشقاقاً عن السلطة، ومن بعدهم “غازي صلاح الدين” ورفاقه، خرجت كلها أو غالبها من سوح سلطة باتت ترتطم سهامها بـ”قفا الزول البناها”، بعد ربع قرن من زمان “الإنقاذ”. لتخلو مقاعد الجهاز التنفيذي من رموز الإسلاميين، وإن بقي بعض شبابهم ورجال الصف الثالث منهم، فلم يعُد يُرى بين القوم “علي عثمان” ولا “نافع”، ولا رجل الأجهزة الخاصة “عوض الجاز”، بل حتى من زحف من الشباب نحو الرمزية والنفوذ فأصبح شيخاً للشباب، منهم غادر مع المغادرين والمبعدين، فتوارى “أسامة عبد الله”، متأبطاً يد رفيقه “كمال عبد اللطيف”. هذا قبل عام ينقص أو يزيد، ليصحوا الناس أمس الأول، على مغادرة آخر رجال الصف الأقرب للرموز، ومن تبوأوا مقام الرمزية بعد فوج المغادرين الأول، فلم يعد مأمولاً بعد اليوم رؤية رجل السياسة والاستثمار “مصطفى عثمان” ولا الجامع بين الضدين (الدبلوماسية والجهاد) “علي كرتي” متوسدين مقاعد مجلس الوزراء.
{ حزب بلا رمزية
لا يستطيع المراقبون ولا المتتبعون لمسيرة التغيرات أو التقلبات داخل الحزب الحاكم أن يقطعوا بأن الرئيس “البشير” يتجه عملياً لتهميش دور الحزب أو على الأقل الاستغناء عن الإسلاميين، برغم ابتعاد أو “إبعاد” الوجوه التاريخية لـ”إخوان السودان”، فالتشكيل الحكومي الأخير الذي كان يواجه شبه إجماع بأن “البشير” سيبدأ مسيرة الاعتماد بشكل أكبر وأوضح على العسكر، خاصة في ما يلي تعيين الولاة الذي أصبح دستورياً بيد الرئيس، لكنه فاجأ الجميع بالاتكاء أكثر من ذي قبل على الكادر الحزبي في قائمة الولاة، باستثناء الرمزية العسكرية الطاغية لوزير الدفاع السابق الفريق أول “عبد الرحيم محمد حسين”، الذي تبوأ موقع والي الولاية الأهم والأغنى (الخرطوم). وهو ذات الأمر في الحقائب الوزارية.
لكن بالمقابل بدا واضحاً أن التغيير الذي يحتشد بالرمزية والدلالات العميقة هو غياب الوجوه الإسلامية التاريخية التي تسقط بمجرد وجودها كل رمزية الإسلاميين على أي تشكيل حكومي، وهو الأمر الذي يقلل من ترجيح فرضية اتجاه “البشير” للاستغناء عن المؤتمر الوطني، وإن كان مؤكداً تقليله من سمت وثقل الحكومة “الإسلامي”. لكن لا يمكن إغفال أن عماد التشكيل الجديد هو من الإسلاميين، وإن تدنت رمزيتهم مقارنة بالمغادرين. وهو ذات الأمر قطع به “كمال عمر” الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي- الفصيل الإسلامي الذي خرج مبكراً ومغاضباً من النظام- بتأكيده بنبرة واثقة أن “البشير” لا يمكن أن يستغني عن الإسلاميين وعن المؤتمر الوطني، لكنه وصف المتغيرات الماثلة بأنها “فلسفة جديدة” تتلاءم مع الواقع السياسي، عادّاً غالب التغيير الذي طرأ على الحكومة يصب في مصلحة الحوار الوطني، مؤكداً أن أثر الإسلاميين واضح في هذه الفلسفة.
كما أكد “عمر” أن “البشير” استطاع قراءة المزاج السياسي لمختلف القوى السياسية- بما فيها المؤتمر الشعبي- الراغب في وجود قيادات مرنة على رأس الحكومة وحزبها الحاكم تستطيع استيعاب مطلوبات المرحلة المقبلة، وقال: (لكننا نطمح لتغيير حقيقي وليس مجرد تغيير في الأشخاص). بدوره، لم يبتعد المحلل السياسي والأستاذ الجامعي المقرب من الحركة الإسلامية بروفيسور “حسن الساعوري” عن هذا التحليل في تقييمه للتغيير الذي حواه التشكيل الحكومي، نافياً إمكانية توصيفه بأنه إبعاد للصبغة الإسلامية التي تكسو وجه النظام، مشيراً إلى أن من أتى بهم المكتب القيادي للمؤتمر الوطني هم إسلاميون، لكنه أقر بأن التغيير طال من سماهم “الحرس القديم” والزعامات المؤسسة لسلطة (الإنقاذ)، لافتاً إلى أنهم لم يبتعدوا تماماً باعتبارهم انتقلوا إلى السلطة التشريعية. ولكن رغم صعوبة اعتماد تفسير التغيير المصاحب لولادة الحكومة الجديدة على أنه تهميش لدور الحزب ومؤسساته لصالح الجهاز التنفيذي، ومع استمرار قيادة الدولة الممسكة بمفاصل اتخاذ القرار في اعتماد دور الحزب كحاضنة تخرج منها هيكلة الدولة وموجهات سياساتها، فإنه لا يمكن تجاهل أن الدولة بدأت تتخفف بدرجة كبيرة من ثقل الرمزية الإسلامية ذات المرجعية الإخوانية التي وسمت وجه النظام منذ تأسيسه، لتصبح علاقة بين سلطة تنفيذية وحزب بلا رمزية تؤثر على علاقات الدولة بمحيطها الدولي والإقليمي.
{ الأثر الخارجي
لم يكن خافياً خلال الفترة الماضية حرص النظام السوداني على التحلل مما قد تبدو “أثقالاً” لعلاقته بالإسلام السياسي الذي بدأ يواجه حرباً ضروساً منذ إسقاط حكم الإخوان في مصر، وقد يتبادر للذهن دون شك نسبة ابتعاد آخر رجال الصفوف الأمامية من إخوان السودان لحرص النظام على إبداء الوجه القومي غير المرتبط بأيديولوجيا الإسلام السياسي، وإظهار المؤتمر الوطني كحزب سياسي صاحب برنامج وطني غير مشغول بالأيديولوجيا.
بروفيسور “الساعوري” لم ينف مقبولية هذا التحليل نظرياً، وإن أشار إلى أنه غير واقعي- رغم إقراره بأن الوجه الجديد للحكومة لا يظهر عليه الوجه الإسلامي القديم- قاطعاً بأن ابتعاد الرموز الإسلامية مجرد عرض وأثر جانبي لعملية التغيير التي طالت التشكيل الحكومي، لم يكن مقصوداً لذاته.
{ تغيير تابع لما قبله
لا يمكن إغفال قراءة التغيير الحالي في إطار التغيير الذي سبقه، وبدا كالزلزال الذي ضرب أركان الحزب الحاكم بابتعاد قيادات الإسلاميين التاريخية ممثلة في “علي عثمان” والمغادرين في ركابه.. لا يمكن استبعاد الربط بينهما باعتبار الأخير استكمالاً للأول في التخلص من الثقل التاريخي الرامز لإسلامية النظام الصارخة. بروفيسور “الساعوري” لم يبتعد عن قراءة ما حدث في التشكيل الجديد في ذات إطار التغيير السابق، لكنه عدّ الإطار الصحيح لقراءة الحدثين لا يعدو كونه إنفاذاً لتوجهات مؤسسات الحزب نحو إفساح المجال لمجموعات جديدة من القيادات وسحب القديمة قائلاً: (هذه هي القاعدة الأساسية التي بني عليها تشكيل الحكومة الجديدة)، مشدداً على أن ما حدث نابع من سلطة المكتب القيادي وقناعاته، وليس قراراً فردياً.
الخرطوم- عقيل أحمد- المجهر