في اليوم الخامس عشر من أغسطس من عام 2010، رحل عن دنيانا رجل فريد من نوعه، متعدد المواهب والمناصب، حلو الروح والسجايا: غازي عبدالرحمن القصيبي الذي كانت البحرين عشقه الأول، فرغم انتمائه القوي الى الهفوف في المنطقة الشرقية من بلده السعودية، ورغم ان مقتضيات تلقي العلم جعلته يقيم في بيروت والقاهرة وسان فرانسيسكو، ورغم أنه بحكم مناصبه الوزارية زار معظم عواصم العالم، فإن قلبه تعلق طفلة عربية تنعم بالديباج والحلي والحلل، ولكثرة ما تغزل القصيبي بالبحرين تحمست لزيارتها، وكنت وقتها ضيفا على شركة أرامكو في الظهران، وقلت لنفر من موظفيها: يا اخوانا بيني وبين البحرين فركة كعب، وحرام ان تمنعني بيروقراطية أنظمة الهجرة من دخولها، وفوجئت بعدها بساعات باتصال هاتفي من الدكتور حسن الجاسر، مدير مكتب أمير المنطقة الشرقية السابق الأمير محمد بن فهد، يبلغني أن سيارة ستقلني البحرين وأن تأشيرة «خروج وعودة» تنتظرني في مكتب جوازات جسر الملك فهد.
وهكذا زرت البحرين أول مرة، ولحسن حظي تمكنت من التواصل مع عاشقها الكبير عمر المرضي، الذي طاف بي أرجاء المملكة عدة ساعات، وبعدها بنحو شهر اكتشفت أن أمر دخولها ميسور لمن يقيم في دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي، وبما أنني عضو مؤسس لذلك المجلس (غطيت أول قمة خليجية في فندق انتركونتننتال في أبوظبي)، وتم تكليفي بتلك المهمة بوصفي خليجيا بالـ«تكلُّس»، والتكلس ينجم عن طول البقاء على حالة واحدة، وهكذا صرت أزور المنامة كلما أقيم فيها معرض الكتاب السنوي، ثم «اختشت» جريدة «أخبار الخليج» «على دمها» ودعتني إلى زيارة مكتبها «بدون مناسبة»، وفي كل زيارة كان مرشدي الخاص عمر المرضي، وعرفت لماذا عشقها الحبيب الراحل القصيبي، وبضمير مستريح أقول إنني لا أعرف البكش، ولكنني لم أقابل بحرينيا «لا ينحب»، ووجدت البحرين على بعضها تنحب وتستأهل الحب.
غازي القصيبي هو من قرأ لي ثم بادر بمراسلتي وهو سفير للسعودية في لندن، قبل أن نلتقي مشجعا إياي على الكتابة الراتبة، بل هو من أقنع عددا من المجلات والصحف اليومية السعودية باستكتابي، وهو الذي شجعني على إصدار كتب تحمل مختارات من مقالاتي، بل مضى إلى أبعد من ذلك، وكتب مقدمة كتابي «زوايا منفرجة وأخرى حادة»، وساهم ذلك في رواج الكتاب، حتى طلبت منه مكتبة جرير طبعة ثانية.
ثم التقيته مرات قليلة، ووجدته مثقفا متعدد الأضلاع، ثاقب الفكر، متقد الذهن حاضر البديهة، وضاحكا «ع الهبشة»، ورغم أنه من أصحاب السعالي (هذه كلمة فبركها القصيبي ليصف بها محبي الألقاب الطنانة وجمع فيها بين «السعادة» و«المعالي»)، فإنه كان انسانا بسيطا، ولم يكن يخجل حتى وفاته قبل أقل من خمس سنوات من أنه لا يملك هاتفا جوالا ولا يستخدم الكمبيوتر، مبررا ذلك بأنه سيظل وفيا لعصر البخار الذي ينتمي اليه العرب.
إعلان
وللقصيبي دواوين شعر وروايات وجدت الرواج اللائق، ولكنني بحثت خلال العامين الماضيين عن رواية له أصدرها في مطلع عام 2002، تحمل اسم «أبو شلاخ البرمائي»، ولم أجدها في أي مكتبة، والشلاخ هو الكذاب المحترف وكذبه مصحوب بنفخات كاذبة «فعلت وسويت وتعشيت ويا الوزير وقلت له بصراحة كيت وكيت»، مع أن حلم حياته قد يكون مصادقة سائق عربة أي وزير، وعلى غلاف الكتاب شخص أنيق الملبس يجلس على كرسي فخم، ولكن الشخص بدون رأس (وهنا رمزية تكاد تكون تقريرية وعندما نقول في العامية إن شخصا بدون رأس فإننا نقصد أنه يفتقر الى المخ/ العقل).
ورغم أن القصيبي وصف «ابو شلاخ البرمائي» بأنها رواية فإنني أعدها سيرة ذاتية من نوع جديد، استطاع القصيبي من خلالها ان يقول رأيه في العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، مستترا وراء المجني عليه أبي شلاخ الذي مارس القصيبي من خلاله الشلخ، وهو الكذب الجسيم والمبالغة، تفادياً للمباشرة والتقريرية الفجة.
jafabbas19@gmail.com