تزيح الخرطوم عنها بتوقيت الحضور بعض التعب، وتتزيأ الفرح حين استقبالها لموسى هلال. فالرجل يخلع عنه أخيراً رداء عدم الرضا، ويتوشح ثوباً جديداً. سبت الخرطوم أخضر بحضور المستشار في ديوان الحكم المحلي، والنائب البرلماني السابق. هلال الذي غادر الخرطوم مغاضبا قبل حوالي ستة أشهر، لم يكتف بالغياب عن مشهد السلطة، وإنما بدأ يبرز من خلال مشهد معارضته للمركز، مستخدماً لغة المواجهة مع الخرطوم. الأخيرة بدت مصرة على إبعاد الثقاب عن الاشتعال. هلال أيضاً في مغاضبته للحكومة قام وعبر مجلس الصحوة الثوري بتوقيع مذكرة تفاهم مع الحركة الشعبية.
وكانت خطوة التوقيع قد دفعت بالخرطوم للتحرك في اتجاه حليفها القديم، فكان المسرح معداً لاستقبال نائب رئيس المؤتمر الوطني ومساعد رئيس الجمهورية إبراهيم غندور، وهو المسرح الذي عرشته الابتسامات يومها، وكانت نتيجته أن ترك هلال تهديده المتعلق بالوقوف ضد العملية الانتخابية كما أعلن مسبقاً. بل وجه الرجل بضرورة حراسة الحق الدستوري للمواطنين، وهو ذاته الحق المسمى بحق استعادة الشرعية للحزب الذي ما زال هلال يتمسك بعضويته فيه، ويتمسك في الوقت نفسه بحقه في انتقاد سياساته كما قال بذلك في حواره المنشور في صحيفة (التيار)، الذي وظفه لإرسال مجموعة من الرسائل؛ كانت أهمها على الإطلاق رسالة دعمه لعودة البشير رئيساً، مقرونة برسالة انتقاد لقيادات أخرى داخل الحزب، تحاول أن تفرض سيطرتها عليه، وتوجيه السياسات، بما يخدم مصالحها الذاتية على حساب المصلحة العامة. أثناء ذلك كله ظلت المعركة على أشدها بين هلال ووالي ولاية شمال دارفور، عثمان محمد يوسف كبر. المعركة التي ربما تتضح معالمها من خلال مسار الطائرة التي هبطت بالرجل في مطار الخرطوم، إذ أنها لم تكن قادمة من الفاشر كما اعتاد فعل ذلك، وهو يسعى للحاق بجلسات البرلمان.
وكان الرجل يدعم فرضية دعمه للرئيس البشير حين تتزامن عودته للخرطوم مع احتفالات تنصيب الأخير يوم الثلاثاء. يقول مديخير، وهو أحد المقربين من هلال: إن عودة هلال للخرطوم من مخرجات لقائه الأخير مع البروف غندور. ويضيف بأن هلال عضو في المؤتمر الوطني، وبالتالي فإن مشاركته في تنصيب رئيسه والاحتفال بفوزه في الانتخابات تبدو مسألة عادية، على اعتبار أنه يدفع فاتورة انتمائه، كغيره من أعضاء الحزب.
والخرطوم التي استقبلت هلال أمس هي نفسها الخرطوم التي استقبلت قبل حوالي أسبوعين أنباء الموت القادمة من شرق دارفور، إثر الصراع القبلي الذي حملت الصحف لاحقاً وساطة هلال بين طرفيه ابتغاء حقن الدماء. المركز بدا وكأنه في حل عن خوض نزاع جديد وحرب أخرى، كما أن كلفة مواجهة الحلفاء تبدو أعلى من مواجهة الأعداء، أو هكذا تشير القراءة في دفاتر الأزمة السودانية؛ فما زال البعض يرجع النزيف في دارفور افتراضاً لحالة قطيعة بين القصر والمنشية، فما بالك حين يكون الصراع الذي انجلى بين القصر والقصر؟؛ باعتبار أن صاحب الجلباب ناصع البياض هو أحد قاطني القصر، بحكم وظيفته مستشارا في ديوان الحكم الاتحادي؟ على كل، فإن نجاح الخرطوم في إغلاق قوس الأزمة مع هلال من شأنه أن يمنح الحكومة فرصة لترتيب أوراقها ولملمة أطراف الصراع في الإقليم المضطرب، أو في أسوأ الحالات؛ فإنها تغلق ـ بنجاحها في إقناع هلال بالعودة ـ باباً يمكن أن يأتيها بمتاعب هي في غنى عنها..
خلاصة الأمر أن الخطوة الأخيرة ـ كما يراها مراقبون ـ هي في الطريق الصحيح، لكنها لا تبدو كذلك دون نثار تساؤلات مبذولة على هامش مشهد العودة، من شاكلة: ما الذي جاء بالرجل أولاً؟ وما الذي أغضبه ثانية؟ وكيف تأتى رضاؤه أخيراً من بعد إباء؟
والاستفهامات المتعلقة بالسلطة في الخرطوم لا تقف عندها، إنما تمضي لتقع هذه المرة في جلباب الرجل نفسه، من شاكلة تلك المتعلقة بمبررات العودة وتوقيتها. المتابعون لمسيرة هلال يؤكدون على فرضية أساسية فحواها أن الرجل يمتلك من الدهاء السياسي ما يمكنه من تحقيق أهدافه، كما أن كاريزماه القيادية تمكنه من قراءة الوضع بوجهة صحيحة، وبالتالي تعبد أمامه الطريق لتحقيق أهدافه المستقبلية. في حواره مع (التيار) كان هلال يرد على سؤال إمكانية أن يصبح رئيساً للبلاد باستفهام: “ولماذا لا؟”.. ربما جاءت الإجابة انطلاقاً من اعتبارات المواطنة، يلقي الرجل بسؤاله الاستنكاري في مواجهة الزميلة شمائل النور، أو انطلاقاً من امتلاكه لمقومات يرى أنها كافية للوصول إلى المنصب، لكن ربط العودة بالرغبة في السلطة يبدو مستبعدا الآن، باعتبار أن الهدف هو مباركة شرعية الشعب التي منحها للرئيس البشير، والذي يكن له هلال كل المعزة والاحترام، لكن نفي وجود أهداف سياسية يسعى الرجل لتحقيقها عبر العودة يبدو مسألة غير منطقية، ففي وقت سابق أبرزت إحدى الصحف ما مفاده أن مجلس الصحوة يطالب بمنصب والي شمال دارفور، ليأتي الرد من هناك نفياً مغلظاً. وهو نفي ربما لا يعني أن المجلس غير راغب في تغيير البنية السياسية في الولاية، بناء على موقفه من حاكمها، بقدر ما يحمل التأكيد على أن هلال ورفاقه يطلبون بأكثر من مجرد منصب ولائي، حسب ما يذهب إليه بعض المراقبين.
المؤكد أن ثمة ترتيبات سياسية ستتم، فهلال عائد الآن بمنصبه القديم مستشارا في القصر، والتأثيرات المحتملة للرجل من خلال موقفه الجديد ستظل قابلة للقراءة، طالما ظلت الفاتورة السياسية للتقارب الجديد غائبة عن سطح المشهد السياسي. وفي كل الأحوال تبدو ابتسامة الخرطوم آناء استقبالها للرجل مبررة لأقصى حد، باعتبار أن الحد من أيما مواجهة يصب في رصيد التوافق الوطني، بيد أنها ستكون ابتسامة كاملة الدسم إن نجحت الأخيرة في تصديرها إلى شمال دارفور، ومدعاة للفرح لو انتظمت ولايات الإقليم الأربع المتبقية، فهل تنجح الخرطوم في توظيف كاريزما الرجل القلق من تفاقم العنف، والمطالب بوضع نهاية له؟ يقول هلال إنه عقب الفراغ من مراسم التنصيب سيعود إلى الإقليم لنشر السلام في ربوعه، “عبر الدخول في حوار مجتمعي، وبالتنسيق الكامل مع رئاسة الجمهورية”.
الزين عثمان
صحيفة اليوم التالي