بين مبادرات العمل الطوعي التي تستهدف خدمة المجتمع، والصحافة، شعرة رفيعة، بحسبان أن كلاهما ينطلق من ذات الفرضية الأخلاقية والإنسانية وصولاً لمجتمع معافى من أمراض التفكك والتشرذم والانحطاط وسيادة الفوارق الطبقية والإثنية والثقافية. وربما لأن الصحافة قدرها التاريخي أن تكون (منصة) إعلامية تنطلق منها الأخبار الرسمية عن أحوال الدولة والمجتمع، فذلك تتورط (قدرياً) في مفاهيم أخرى تكون من صميم مسؤولياتها، وهو توجيه بوصلة الأعمال التطوعية نفسها إلى مسار لا يتصادم مع مسؤوليات الدولة الرسمية، بحسبان أن التصادم نفسه إن حدث فسوف يصبح معيقاً للإبداع في العمل التطوعي ومعيقاً للدولة في تقديم أقصى ما عندها من خدمات للمجتمع. ولم تكن مبادرة شارع الحوادث الأخيرة إلا مثالاً يكشف من جانب منحى الإبداع الذي توصلت إليه مبادرات العمل الطوعي، ويكشف من جانب آخر غياب الدولة عن بعض الأعمال التي تأتي في مقدمة أولياتها، وبين هذا وذاك تجد الصحافة نفسها متورطة في خيارين ليس إلا: إما الاكتفاء بالتشجيع أو توجيه النقد والذي ربما يفقدها اقترابها من قضايا الناس.
شارع الحوادث .. أصل الحكاية
هى حكاية شباب يؤمن بالعمل الطوعي عبر مجموعة سمت نفسها (مبادرة شارع الحوادث) تعمل بصمت منذ ميلادها في أغسطس 2012م ولم تسجل نفسها فى مفوضية العون الانساني لانهم يعملون على مبدأ العمل التطوعي من الشارع للمستشفى دون مكاتب او بروتكولات وهذه المبادرة اتخذت من اعلان حاجة المرضى (سرطان الأطفال) للدم او الدواء بابا لمساعدتهم وظلت تعمل فقط فى مجال توفير العلاج للاطفال فقط، ونفذت افكارا اخرى للمساعدة منها قصة التبرع بالدم ونشر ثقافة التطوع واهم مشروع تم انجازه هو (تأهيل غرفة العناية المكثفة بمستشفى الاطفال محمد الامين بام درمان وتسليمه لادارة المستشفى بعد اكتمال التأهيل)
حكاية غرفة العناية
افتتاح غرفة العناية المكثفة بمستشفى محمد الامين للاطفال بامدرمان في يوم السبت (16/5/2015م ) كان حدثا يصب في نهر مشاريع الشباب فى العمل الطوعي وفي تطور مفهوم منظمات المجتمع المدني. وشباب مبادرة شارع الحوادث المهتم بالأطفال المصابين بأمراض السرطان والدم والكلى بعد أن شاهد معاناة هؤلاء الاطفال جاءت فكرتهم لتأهيل غرفة العناية المكثفة بمستشفى محمد الأمين حامد بأمدرمان بعد ان وافقت الادارة على ذلك، ليفتتحوا غرفة للعناية المكثفة ومن ثم تقديمها هدية للأطفال بذلك المستشفى. و اختاروا “الخالة” أم قسمة بائعة الشاي في شارع الحوادث أمام مستشفى جعفر أبنعوف للأطفال، لتقص شريط الافتتاح. وفى السياق قال نائب مدير المستشفى الدكتور برير محمد الفكي : ان مساحة غرفة العناية المكثفة 185 مترا مربعا احتوت على الآتي: 7 أسرة مكتملة، غرفة للعزل، غرفة للممرضات، غرفة للطبيب، غرفة للمناوب، غرفة للتعقيم. نظام ضد الحريق، نظام لتأمين الكهرباء، نظام للدخول بالبصمة، نظام ملف إليكتروني، سقف معدني للحماية من البكتريا، نظام تكييف، ستائر إليكترونية للعزل وحفظ الحرارة، دهان للأرضية مقاوم للبكتريا، 2 ثلاجة، 8 كراسي، 2 كاونتر، 2 دولاب فايلات، 3 حاسوب، واحد سيرفر، 2 دولاب ملابس، دولاب للممرضات. أجهزة ومعدات طبية لكل ما تحتاجه غرفة العناية مشيرا بأن الشباب قد درسوا المشروع بعناية شديدة وقاموا بالاستشارة المهنية اللازمة قبل أن يبدأوا مشوارهم الذي استغرق أكثر من سنتين ونصف واوضح الشباب ان غرفة العناية كلفت حوالي 2 مليار و27 مليون جنيه (بالقديم) وان 76% من هذا المبلغ جُمع من داخل السودان، 8% من سودانيين بالخارج، 16% من مؤسسات. وتم جمع المبلغ أساساً عبر وسائل التواصل الاجتماعي
لماذا أم قسمة؟
على بوابة مستشفى جعفر أبنعوف للاطفال كانت ام قسمة تقف وهى تسند بنتها “قسمة” المريضة و المصابة بمرض الكلى بعد سنوات طويلة من الممارضة وهى القادمة من ولاية جنوب كردفان في العام 2009م والتى تم تحويلها لمستشفى جعفر ابنعوف للعلاج فكان لقاؤها بشباب شارع الحوادث الذين تعرفوا على قصتها مثل كل قصص ذوي المرضى الجالسين على بوابة المستشفي فى انتظار العافية والصحة والعلاج فكانت المساعدة من الشباب لام قسمة فى كل اجراءات الفحص والعلاج والمتابعة لحالة ابنتها بل امتدت لها يد لتبدأ فى عملها ببيع الشاي بذات المكان للكسب الحلال وتوفير مصاريف الحياة والعلاج ومن هنا بدأت علاقة ام قسمة بالشباب الذين ظلوا يجتمعون على بنابرها القصيرة لساعات طويلة في معظم الأيام يتداولون الرأي حول أنشطتهم الطوعية ومشكلات تمويلها، وشيئاً فشيئاً أصبحت أم قسمة جزءاً لا يتجزأ من هؤلاء الشباب وكانت معهم منذ بدايات الفكرة لتأهيل غرفة العناية المكثفة للأطفال عندما علم الشباب بالحاجة لجهاز أكسجين في أحد المستشفيات لإنقاذ طفل فلم يوجد به. ربما كان كل ذلك هو الدافع في أن يقع عليها اختيار الشباب لقصّ شريط الافتتاح وأن يقدم لها المقص الطفل الصغيرعبد الله المصاب بمرض السرطان في ذات المستشفى
الصحافة والعمل الطوعي
(حرية الصحافة) لها سقوفات تحيط بمعصمها فلا حرية مطلقة ولا نقد مطلق بلا ضابط ولا رقيب. (حق التعبير) مكفول للجميع ايضاً ولكن بسقوفات ايضاً وحدود واخلاقيات، وكل هذه القيم تسمى (اعراف و اخلاقيات مهنة الصحافة). وهذه الحزم من الاخلاقيات عالمية لا تختلف من دولة لاخرى لانها مستمدة من اكثر من ستة اعلانات مباديء صادرة من الامم المتحدة اضافة الى قرارين واتفاقيتين. والصحافة السودانية بدورها تفاعلت مع مبادرة شارع الحوادث، تشجيعاً أو نقداً للجزئية الخاصة بمراسيم الافتتاح. على سبيل المثال تحدث الاستاذ الهندي عز الدين فى عموده الراتب (شهادتي لله) بصحيفة المجهر عن اهمية تراتيبة العمل العام فى التنظيم والذى جاء ناقدا لاختيار شباب الحوادث لأم قسمة بائعة الشاي لتقص شريط الافتتاح و داعيا الى ان تكون مثل هذه الافتتاحات وفقا للتراتيبية الوظيفية عبر مسؤوليين حكوميين مشيدا بذات الوقت بالعمل الطوعي. مقال الأستاذ الهندي عزالدين تمت مواجهته بحملة شرسة من قبل الشباب الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي واعتبروه عدم تشجيع للمبادرة وتقليلا من شأن العمل الطوعي ، غير أن الهندي ظل يكرر أنه انتقد مراسم الافتتاح نتيجة لغياب التراتبية الوظيفية فقط.
الاعلامي حمدى صلاح الدين قال (للسياسي) إن مجموعة العمل الطوعي هي مجتمع مثله مثل اي مجتمع وارد جداً تجد فيه ايجابيات كبيرة وبعض السلبيات (على مستوى الافراد وليس على مستوى الفكرة). ومتي ما تفوقت ايجابيات هذا المجتمع علي سلبياته – دون المساس بالثوابت طبعاً – يعتبر مجتمعا يمكن التعاون معه و التعامل معه. وان غالبية شباب و شابات مجموعات العمل الطوعي هم (عجينة) يمكن تشكيلها – بحسب اعمارهم – وبالتالي يجب التعاطي مع بعض السلبيات التي تظهر من بعضهم ب(فهم تربوي) وليس ب(فهم محاسبي) ومحاولة تطوير وبناء قدراتهم و ليس (اغتيالهم معنوياً) والزج بهم في صدام مع الدولة.
الكرة فى ملعب وزارة الصحة
نفى وزير الصحة بولاية الخرطوم -الدكتور مامون حميدة – اي علم له بشأن إعتزام السلطات اجراء تحقيق مع مجموعة شارع الحوادث وذلك على خلفية نشر صحيفة (المجهر السياسي) لخبرفي عددها الصادر يوم السبت الماضى حول اعتزام السلطات اجراء تحقيق حول مبادرة شارع الحوادث. ويرى مراقبون أن فكرة أن يكون هناك مسمى يحمل اسم (شارع الحوادث) وأن تكون لهم مبادرات كبيرة تصل درجة افتتاح غرفة عناية مركزية ، فهي في الأساس تعبير عن شعور غير راض عن أداء ومهام وزارة الصحة فيما يتصل بالقطاع الصحي، ولأن كل مكامن الجدل الدائر عن تردي البيئة الصحية وتدني الخدمات وارتفاع شكاوى المرضى، هو السبب المباشر في تفريخ مثل هذه التكوينات الشبابية التي أعلنت عن نفسها بقوة للعب دور البديل و(النائب) عن مسؤوليات وزارة الصحة في تقديم الخدمات الصحية للجمهور.
الناشطين وقضايا الوطن
نشاط المجتمع المدني هو فى حقيقة الامر مساهمة قوية في الحياة بمختلف اوجهها السياسية والاجتماعية والثقافية وإضافة حقيقة للنضج المجتمعى تجاه قضاياه وللنشاط المجتمعى دور كبير في تشكيل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى محيط المجتمع، وللناشطين فى المجتمع المدني دور. يمثل الجسر الوسيط الواعي بين الدولة ككيان سياسي والمجتمع. وفي كثير من بلدان العالم أضحى مفهوم الناشطين هو تعبير غير مباشر عن نشاط سياسي خارج أطر التنظيمات والكيانات والأحزاب، ولذلك فهو نشاط (غير منضبط) بالنسبة للحكومات، بحسبان أن الحكومات نفسها تعبير مباشر للمؤسسات السياسية المنضبطة باللوائح والأسس التنظيمية والأيدولوجيا، ولهذا من الطبيعي أن يتعارض اداء الناشطين مع اداء الحكومات في أحايين كثيرة ويغدو مهدداً لمفهوم (الرسميات) الذي تتخذه الحكومات، والسودان ليس استثناءً من هذه البلدان، يكون فيه ثمة امتعاض غير مباشر ومتبادل بين الحكومة والناشطين ولو قاما كلاهما بنشاط إيجابي.
منظمات المجتمع المدني
تاريخ تكوين منظمات المجتمع المدني فى السودان ليس بالجديد فهو تطوير لثقافة النفير والمسيد والهبة وفضل الظهر وكل الموروثات الثقافية فى الحياة الاجتماعية وتطور الى بناء المجتمع فى مجالات الصحة والتعليم والدعم الانساني فى الكوارث الطبيعية. وفى احصائية لمفوضية العون الإنساني بوزارة الشؤون الإنسانية في الخرطوم نجد هنالك أكثر من ستة آلاف منظمة وجمعية مسجلة و تعمل كثير من هذه المنظمات في العديد من المجالات الحيوية للمجتمع مثل: الإغاثة والتنمية والصحة والتعليم والبيئة وتوفير المياه والآداب والفنون والتوعية والمناصرة والعون القانوني وهذه المنظمات الطوعية تمثل نافذة امل للمجتمع فى الحياة بالسودان خاصة وانها تعمل بعيدة عن الاجندة السياسية التى ظلت تهمة تلاحقها على الدوام.
الخرطوم: عيسى جديد- السياسي