أخــي أنــت حــر بــتلك القــيــود!!

«أ»
ما حدث في مصر، ليس سوى جولة من جولات الصراع، ومحطة من مسير طويل، وتجربة تستحق التوقف عندها واستلهام عبرها، بعد أن بان الباطل بكل مقابحه ودمامله ونفاقه وكذبه وبطلان ادعاءاته، وانكشف نفاق التيار العلماني الذي شرخ الحلاقيم والآذان، بأنه سادن الديمقراطية والحرية وملاذ التسامح والتصالح، فها هو يظهر مطية للعسكر، متحالفاً معهم بعد أن عجز عن الوصول إلى كراسي الحكم عبر الانتخاب والتفويض الشعبي.
تاريخ حركة الإخوان المسلمين في مصر، كله تاريخ من المجاهدات والاصطبارات والنضالات الطويلة والمضيئة والسجون والشهداء والأحزان، حين كانت انكسارات النفوس هي محراب النار التي تخرج من تحت الرماد، وقد تعوَّدت هذه الحركة، على مرّ الزمن، أنها لا تدخل في وحل الانحدارات الحادة، إلا وهي كاللؤلؤة على ثبج البحر، تطفو فوق مأساتها ودمها ودموعها، لتنتج من جديد تاريخها وتستعيد مجدها المؤثل وانتصاراتها والخروج.
سارت وهي مخضبة بدماء الشهداء من لدن الإمام الشهيد حسن البنا إلى الشهداء «محمد فرغلي وعبد الفتاح إسماعيل وأحمد حامد قرقر وعبد القادر عودة ومحمد كمال السنانيري وسيد قطب وإسماعيل الفيومي وفاروق المنشاوي وأكرم زهيري ونور علي نور وعبد الكريم حاتم ..» هؤلاء الشهداء على مر التاريخ المضيء للحركة حتى اليوم في مصر .. هم القناديل والمشاعل التي تزيح حتما قوى الظلام والبغي والتبعية والظلام.
وليس هناك ما هو أقسى من حنظل المؤامرة الدنيئة حين يقف غصة في الحلوق، في زمن الفواجع والموانع والقواطع وليل التآمر الطويل.
لكن حين تتكاثف حلكة الظلام، يقفز الفجر ملتمعاً كأنه برق طويل العمر، وتضيء فجوات الزمن تلك البيارق الجديدة وذاك البريق العجيب!!
«ب»
الطريق واحد.. طريق المتجبرين المستكبرين.. وأيضاً الطريق واحد للصامدين الصابرين الواقفين على جفن الردى وهو نائم.
هي حالة شديدة الغرابة، حين يحاول الظلام أن يمد سدوله فوق جبين الشمس، وعندما يحاول الزبد أن يسرق جريان الماء، ويستفرغ الباطل جهده أن يفقأ عين الحقيقة ويدوس عليها بحوافر من حجر.
هذه هي علامات الزمن القميء.. ومعالم الراهن التافه. الذي ينتفش فيه ريش الضلال وتنتفخ فيه أوداج الطواويس الكاذبة المختالة بوهج القوة الباطشة، المتوهمة أن عجلات الزمن تدور كما تشتهي.. وكأن الظلال دائماً على امتدادات الطريق هي الظلال!!
«ت»
لأن النتائج والخلاصات النهائية دائماً واحدة.. لا يتغير الناموس الكوني، ولا الوعد غير المكذوب لبارئ الكون ومصوره ومدبره ورشيده وصانعه وباسط أرزاقه والمهيمن على كل جبار.
تكاد هذه الحالة اللزجة التي تنزى ظلامها ويحاول أن يستعلي ظُلامها، تحبل بكل إشراقات الغد المترقب المأمول مهما حاولوا طمس وجهه وملامحه في بواكير طلوعه، وهو النصر الذي يتواثب بعد صبر، والفوز الذي يأتي بعد عوز وعجز وانكسار وحريق ودمار….
هذه الأمة ــ العصية على الكبت ــ أرسخ من أطواد الجبال، مهما علا الزيف والباطل على أرضها، وتكاثر خونتها وتهافت فُسّاقها وتناسلت خيباتها، عصية على الانسحاق والانسحاب النهائي من حلبة الزمن والتاريخ.. قد تتعثر في مسيرتها وتواجه الأنواء والعواصف، وقد تتأخر في مخاضاتها وقد تبطيء في عدوها، لكنها في آخر المطاف تصل وتنتصر ولا ينطفئ بعزمها وتوكلها نور فالق الحب والنوى.
هذه هي مسارات الزمن والكون ونواميسه، فالطغاة.. مهما بطشوا بقوتهم واستعانوا بتداعيهم كالأكلة على قصعتها.. هم إلى زوال وخسران وخيبة، ولولا ذاك لما تلاشى عبر التاريخ الفراعنة والهراقلة والأكاسرة الجبابرة الأولى.. كنزوا الكنوز والقوة، فما بقين ولا بقوا!!
«ث»
عندما ينظر المرء في مخالب الاستهداف الحادة والدم يقطر من المخالب والأنياب كما حدث في فضيحة التيارات العلمانية في مصر أول من أمس، لا يأخذه أدنى شك أن هذه الاستقواءات الخادعة بالقوة الباطشة والنفوذ المادي، هي كالريح الهوجاء تعصف بقوة وجبروت وصلف، لكنها تذهب سريعاً وتنكسف، وتبتلعها تجاويف الزمن والتاريخ، وتبقى الفنارات مضيئة والمنارات سامقة والمآذن تلامس الجوزاء وهي تمخر عباب الشموخ.
فالنصل مهما كان حاداً وصلباً، لا يقطع خيط الشعاع، والرمح مهما كان طويلاً لا يخترق قلب الضوء ولا يدمي صدر السحاب!! والمنجل مهما كان قاسياً لا يغتال عطر الوردة، والجهل مهما استطال لا يصادر بهاء الفكر والعقل!!
«ج»
بالفعل هذه لحظات حاسمة في التاريخ، لنا وللمنطقة من حولنا، لحظات لم تمر مثلها في تواريخنا بمثل هذه اللعنات الحارقة وهذه الطعنات التي تفجر صديد الطاعنين وليس المطعون.
«ج»
تحمل ساحتنا السياسية العربية وخاصة ما يجري اليوم في أرض الكنانة، عارها الأبدي بعد أن نبتت فيها أشواك الخذلان والخنوع، وانتشرت العتمة في كل مكان، ويكاد يضيع بريق الأفكار، وبدت حلكة الظلام تزحف من جديد تطول كل شيء، فصار النضال القديم ارتزاقاً وجسارة السياسيين محض كذبة واختلاق.. وجثا الصدق في عُرصات النفاق، وبات الرجال الرجال.. قطيع نياق!!
كل الساحات الفكرية وحرارة السياسة وسخونتها ووضاءة احتراب العقول، تحولت في الزمن الأمريكي، إلى سيف من ورق يشهر أمام ألسنة اللهب!! صار كل شيء لا ثوابت ولا قيم ولا وطنية ولا مروءة ولا رجولة!!
ألم تر كيف غدت بلادنا ووطننا الكبير من المحيط إلى الخليج يخرج مرة أخرى من دائرة التاريخ ليعود إلى ركن قصي مظلم بارد في قاع الزمن..!! فانفرطت سبائك الفضة في طين الوحول، وركضت شمس الفكرة والمعرفة لتختبئ خلف ظلام الأفول!!
«ح»
لكن الشقي هو ذاك الذي يبحث عن بريق وسط الركام، وقد نهضت من جديد جلبة الغوغاء والسابلة، وعادت بثور التوابع ونثار العلمانية واليسار الأمريكي تشهق شهقة الحياة، وقد جرت في عروقهم شهوة التذيل والاتباع وتلك هي خاصية الكلاب.
في صراع الحضارات وغلواء التصادم، لم تجد أمريكا وهي تحاول تنميط العالم وصبغه بصبغتها، إلا بعض الجنادل والجنادب، ليكونوا بيارقها في معركتها على أرضنا، وهي معركة تغيير المفاهيم وتغبيشها وتسميم العقول وتشويشها.
بعد حقبة من الجولات المائزة خلال عقدين وتزيد، كادت فيها فراشات الخداع الملونة يتسابقن ويحترقن على نار المعركة الحامية بين الإسلام والعلمانية، وأزهقت فيها الأخيرة في أدنى الشرق وأقصاه وأوسطه، وبان للناس والعالمين أن كلمة الله باقية وظاهرة سواء أكانت عبر صندوق العجائب المسمى بصندوق الاقتراع، أو عبر حناجر الثوار وقبضاتهم المقذوفة في الهواء أو عبر فوهات البنادق والمدافع.
لم تجد معابد اللادينية السياسية غير أن تخيط مفتوق الدمى من جديد وتصدر نهجها وأفكارها، ترياقاً للصحو والفجر الجديد الذي أطل ولن تهزمه هذه الزعانف.
«خ»
في وطننا العربي الكبير أو بلادنا هذه التي جمرتها الحرائق وجملتها الصعاب، نرى هذه الدمامل التي طفحت على جلدنا السياسي والإعلامي الثقافي من جديد، ظهرت كالطفح البثوري تتناصر وتتنادى كأعشاش الزنابير.
كم هو قاسٍ … ذاك النشيد الحزين الذي يغنيه البعض على معزوفة الريح الفراغ!! وكم هو مثقل بالجراحات كما الغمامات الهميلات، هذا المشهد العبثي النازف من حر السراب، حيث يبقى القابضون على حبل الوعود الكاذبة، يشدون قبضتهم بأصابعهم المتلهفة على الماء…!! ويا له من قبض، مثل ما كان المغني يغني.
كان الراقصون يعلقون طحالب القيعان حول رقابهم
ويضاجعون هياكل الأموات في الذكرى
وكنت ترتقب أحمرار عجينة الطوفان
لم أك مصغياً إلا لصوت دمي
دمي الأشد توهجاً فوق هذا الكوكب الوحشي
لم أك مصغياً إلا لصوت دمي!!
وتظل رعشة العينين والشفتين والقدمين، تأخذ أرجوحة الحلم المختال، في الفضاء، ولا شيء سوى السراب العريض، وشهقة الحقيقة التي تأبى أن تتمرغ في تراب الواقع الطيني اللزج.
وكلما زادت المعزوفة في أذن الريح الهوجاء، كانت فجوات المشهد السياسي العجيب، تلفظ الصدى، وتستقرب واقعاً لا يعرف الإيقاع الرتيب.
يحصد العلمانيون واليسار العربي خيباتهم، بعد أن طمرتهم الثورات العربية في ربيعها المزهر، وأخذت ونالت الحركات الإسلامية «عدوهم اللدود» ثقة الشعوب وتأييدها، في تطور سياسي وتحول كبير تشهده الساحة العربية والدولية، تستعيد فيه التيارات الإسلامية الساحة والمجال الذي تسيدته الأنظمة العلمانية والنخب المستغربة التي ورثها الاستعمار الحكم وحكمها في الرقاب، وعندما أزيحت من السلطة تحت ضربات الصوارم والقنا.
لكن تدافعت القوى العلمانية وتوحدت معها قوى من بئيس السراديب السياسية ومتاحفها ورمالها، في المنطقة العربية لتكون كلها قطعاناً تقودها الدول الغربية الحاقدة لإطفاء نور الصحوة الصاعد.
كلاب الصيد الأمريكية من آيديولوجيين وطلقاء اليسار وعبدة الشيطان والدولار، يقفون أمام دروب الحياة الجديدة، زاوجوا بين الآيديولوجيا البائدة ولحظات الحياة السعيدة على الأرصفة والتسفار اللذيذ ورغيد العيش في الكنف الأمريكي المترف، فصاروا جميعاً كما نراهم الآن، الأشد على وطنهم وأصحاب السنان الأكثر وخزاً وطعناً في تراثهم وثقافة بلدهم واستقلاله وكرامته وكبريائه.. يعيدون حركة الزمن والتاريخ إلى الوراء أو هكذا يحلمون.
ولم يتسنَّ لبرغوث أن يمتص دم ضحيته، كما هو حال براغيث السياسة الأمريكية الملتصقين في جسد الحياة العامة، فها هم يروجون لكل ما هو شائن، ويشوهون محاسن أوطانهم ويتآمرون ضدها، على مظنة أن التيار الإسلامي الذي يحاربونه سيطاح به إلى غيهب الوهاد والنسيان.. ما تصنعه هذه الفقاعات السياسية المزركشة بلون الأنموذج الأمريكي الخادع، فقد تحولوا لصورة مقاربة لمروِّجي المخدرات، يروجون للسياسة الأمريكية وهي في أدنى حالات سقوطها وانحدارها الأخلاقي، يتبنون لغة ومفردات ومنتجات العقل السياسي الغربي ويرددونها كالببغاوات، وينامون على وسادات الحلم الأمريكي كما يشاءون.. وهم يحلمون بوطن تابع ذليل، وبحياة تقف على حافة الاستحمار.. في كل مكان في بعض العواصم العربية تجد كلاب الصيد الأمريكية متأهبة للنُّباح والنهش والعضّ، لكن بلا فائدة.
لا يفهم ما حدث في مصر إلا في سياق الحرب على الإسلام ودعاته، والقضية ليست الحرية ولا التحول الديمقراطي، هي قضية توجه وفكر ومنهج وصراع حضاري لن ينتهي ولن تزول راياته مهما فعلوا.
يكرر التاريخ نفسه.. فقصيدة سيد قطب الذي سجن ثم أُعدم.. يتردد صداها القوي في القلوب وبين زنازين السجون التي يقبع داخلها الرئيس المنتخب محمد مرسي والدكتور محمد بديع والبلتاجي وقيادات الإخوان وشبابهم ونساؤهم .. لكنهم أحرار وراء السدود وبرغم القيود.

Exit mobile version