مهاجر بلا نصير: كان يظن أن الدخول إلى العوالم الأوروبية يعني تجاوز كل أوجاع بلاده.. لن يتسع الواقع لأحلام الفتى الطائر

“ما وطنك لكن بربيك”.. يرسم (محمد أسد) العبارة على صفحته الخاصة في الفيسبوك صبيحة التحاقه بمعسكر اللجوء في إحدى الدول الأوروبية، لكن ولأن شتاءات البلاد التي تموت من البرد حيتانها صعب احتمالها، يعود محمد نفسه ليكتب عبارة أخرى: “إلى من أقنعوني بموت الأفاعي ثم قادوني خلسة لجحورها”.
لم يتسع الواقع لأحلام الفتى الطائر الذي كان يظن أن الدخول إلى العوالم الأوروبية يعني تجاوز كل الأوجاع التي عاشها في بلاده. لكن سرعان ما يكتشف المغادر أن الحلم الأول يحتاج لحلم آخر يدعمه، وأن الجنة الموعودة لم تكن في الحقيقة كذلك. يقول الشاب لنفسه وهو يحاول أن يتغطي من البرد: “نحن لم نحلم بحياة أكثر من الحياة”.

أسد الذي ظن أنه قد تجاوز جحر الأفاعي بوطنه وأنه الآن يمكنه أن يغادر حزن غياب الوظيفة ومشكلات التأمين الصحي ويجد التعليم الذي يضمن له مستقبلاً مشرقاً ويمكنه من تحقيق ذاته، وجد نفسه محاطاً بعقارب من نوع آخر، عقارب تنفث سمها في دواخله دون أن يجد اللغة التي تمكنه من الرد عليها وحماية ذاته، لم يكن هناك وحده فأفريقيا التي تصدر المواد الخام هي ذاتها أفريقيا التي تصدر مشكلاتها ولاجئيها، فالحرب التي غادرت به هي مثل داء الملاريا هناك لا تقف عند قطر دون آخر وتنتاش دولة لتترك الأخرى.

ربما تكون قصة أسد هي الأفضل بين قصص آخرين، فطريقه إلى أوروبا بدا سالكاً وهو لم يضطر للإبحار فوق موت المتوسط في ظروف إنسانية بالغة ولم يتعرض لعمليات ابتزاز من قبل عصابات تهجير البشر ووصل هناك دون أن يفقد أيا من أعضاء جسده من قبل تجار الأعضاء البشرية، كما أن وجوده في البحر لم يكن تحت رحمة تباينات مواقف المجتمع الأوروبي بين داع لإرسال سفن الإنقاذ وبين رافض لها وبالطبع رافض لوجود الأجانب في أراضي دولته.
أسد في انتظاره للحصول على تأشيرة البقاء يمثل فردا في قائمة من كثيرين ضاقت بهم السبل في أراضيهم فاختاروا الإبحار شمالاً للبحث عن واقع أفضل من الذي يعيشونه في أراضي الجنوب الفقيرة، من إدارة الموارد الفقيرة، من إدارة البشر أنفسهم لغياب الكلمة السحرية (الديمقراطية) ولعدم احترام حقوق الإنسان باتجاهاتها العالمية، في رحلة بحثهم عن واقع آخر تعترضهم أشواك كثيرة لعل آخرها أنهم صاروا موضوعا لنقاشات العالم الحر وهو يضع القوانين للتعاطي معهم وبالتالي يضع أسس التعاطي مع دولهم.

السودان، الدولة التي غادرها محمد، تبدو على غير العادة في سجل ناصع في ما يتعلق بالتورط في قضايا الهجرة غير الشرعية، وكان للخرطوم قضايا أخرى يمكنها أن تتعامل معها وفقاً لنظرية المقايضة وذلك من خلال نثرها لتعهدات بالمساهمة في العمل لمعالجة ظاهرة الهجرة غير الشرعية، كما أن هذا الأمر ربما يكون أكثر جدوى بالنسبة للدول الأوروبية التي تدفع فاتورة عدم الاستقرار السياسي في أفريقيا من خلال استقبالها لجحافل القادمين إليها من هنا وعلى رأس كل ساعة.

يقول آخرون إن المعالجة الرئيسة للأزمة تبدو في ضرورة تبني منهج (داوها بالتي كانت هي الداء).. فغياب الديمقراطية والاستقرار السياسي وضعف الواقع الاقتصادي هي أكبر الدوافع التي تدفع بالمهاجرين إلى المغادرة بالطبع فإن معالجة هذه الأزمات تمهيد للقضاء على كوابيس أوروبا.
لكن الأمر هنا يطرح سؤالا آخر يتعلق باستعداد الدول الغربية لدفع هذه الفواتير وهو أمر يتعلق بإجابة على سؤال حول مدى قدرتها على إقناع مواطنيها هناك.

أسد يجد أمامه الطريق في اتجاه واحد، هو فقط اتجاه الاحتجاج والاعتراض، يتضامن مع رفاق الهجرة ليشكل حملة مناهضة للسياسات الأوروبية في مواجهتهم، لا ينسى الذاهبون إلى هناك أن يحملوا أمامهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويضعوه على أسنة الرماح لعله يساهم في معالجة بعض معاناتهم. لكنهم يعودون في نهاية المطاف مع استمرار معاناتهم وأحلام العودة المستحيلة.

الزين عثمان
صحيفة اليوم التالي

Exit mobile version