قال الرجل قبل أن يرحل بقليل: (يستريح كتاب الموعظة على رف في مكتبة الحمقى لم يمسسه أحد/ زادت سعادتي وغنت الضفادع في مستنقعات بوميرانيا/ وطفحت القنوات بالصمغ. البارجة تمخر عبر نهر ستايكس/ اذهب بهدوء مثل المطر قابل الأوراق الهامسة اسمع صوت جرس الكرملين). إنه الشاعر السويدي الحائز على نوبل 2011م (توماس ترانسترومر) والذي رحل الشهر الماضي (أبريل) من هذا العام.
لا أعرف ما الذي ربطني بهذا الرجل (البعيد) رباطاً لا يقل قوة عن (انعقادي) على اليوناني (يانيس ريستوس)، فتوماس، يكتب شعراً خارج الأيدلوجيا والسياسة، شعراً يحاول استقطاب الإنسان إلى الوعي والاستنارة ويأخذ بيده بعيداً عن حالة (البلاهة) التي ينتجها الإعلام والصحافة خاصة.
ليس ثمة من ينتج البلاهة ويروج لها عبر يوميات الخرطوم الراهنة سوى (كُتّاب الموعظة) الذين يسوقون بضاعتهم إلى الحمقى ويغلفونها باللغة الدّوارة والحيِّل البلاغية ويحشونها أكاذيب، ثم يصرخون في الناس: إنها الحقيقة!
ألم يعترف أحد كتاب وصُنّاع ومنتجي البلاهة بأنه يكذب؟ وبأنه نظير أكاذيبه يتلقى أجراً يفوق أجور (20) صحافياً ميدانياً يشتغلون بجهد وكفاءة وصدق على تقصي الأخبار والتحقق منها؟
نستعرض هذا، أنموذجاً خاطفاً لكنه باهر لصناعة الوهم والبلاهة والخبل في يوميات الخرطوم الراهنة، ثم نعود لصاحبنا السويدي الراحل (توماس)، نستمع إليه كي نتبين كيف تكون كتابة الموعظة خارج الصحافة والمنابر الدينية وأطر الأيدولوجيات, كتابة الموعظة داخل قافيات الشعر أكثر نفاذاً وحذقاً، يقول: “يحدث في منتصف الحياة أن يأتي الموت/ ليأخذ مقاساتنا/ هذه الزيارة تُنسى/ وتستمر الحياة/ لكنّ الثوب يُخاط بلا علم مِنّا”. الصورة السابقة تجسد فلسفته حول الموت الذي يأتي في منتصف الطريق فيطلق كلمته الأخيرة.
بالمناسبة: نفس الأسلوب يتّبعه الحكّام، إذ يدأبون عبر (وعاظ) الإعلام، أو الإعلام الوعظي على صناعة شعب أبله تسهل السيطرة عليه، كل ما يطلبه لقمة عيش وبعض الكهرباء والماء وقليل من الفرفشة التلفزيونية التافهة.
لا معارضة، لا أحزاب، لا انتخابات حرة ونزيهة لا تعليم متطور منفتح يتماشى مع مستجدات العصر.. إعلام موجّه، مواقع إنترنت إما محجوبة أومراقبة. إنه فن صناعة الغباء.
الآن، من أراد بالبلاد والعباد (خيراً) فليصطف إلى جانب يناكب ثم يناهض صحافة الموعظة، صحافة الإثارة الرخيصة، والاستغلال البشع لمشاعر المواطنين، وإخافتهم بـ(إما هذا) أو الطوفان عبر إنتاج حلقات من الأكاذيب متشابكة ومتداخلة مع أطياف رفيعة وهشة من الحقائق حتى وكأنها مثلها.
صناعة البلاهة، لن تستمر، لكنها تستغل الغفوة الجمعية التي تنتجها السلطة (سياسية كانت أم فكرية وثقافية)، لكن ما أن تتفتح العيون والعقول، وهذا يحدث (بغتة)، فإن صُنّاع الغباء والبلاهة، لن تتاح لهم فرصة الدفاع عن أنفسهم حتى ولو (بلا أو نعم).
يقول (توماس ترانسترومر): “خيمة الصمت تلبس الحركة/ دفة سرية لسرب من الطيور المهاجرة/ من ظلام الشتاء”. فاصمتوا!