صندوق الإسعافات وأرفف وسقف الثلاجة في بيتي جميعها ممتلئة بأصناف من أدوية الأطفال يصلح بعضها لان تغمز فيه قطعة خبز وتأكلها كأحلى ما يكون الطعام، ولا احتاج في معظم الأحيان إلى استشارة طبيب، فيما يتعلق بالأمراض التي تصيب عيالي فالصيدلية المنزلية بها من كل دواء زوجان أو أكثر وكفاني الله مشقة البحث عن الصيدليات المناوبة التي لا تناوب.
ولكن ماذا دها عيال هذا الزمن؟ يأكلون من الطعام ما كان جيلنا يحسب أنه موجود في الجنة وحدها، ويمنحون جرعات دوائية وقائية تمنع عنهم وقوع معظم الأمراض، فإذا مرضوا فهنالك أطباء توزعوا اجسام الاطفال واصبحت كل مجموعة منهم مختصة فقط بعلاج جزء من جسم الطفل، بحيث أصبح للأطفال عالم قائم بذاته في مجال الطب، فلهم اختصاصيو باطنية وقلب وجراحة وجهاز هضمي وليس ببعيد أن يأتي يوم يختص فيه طبيب فقط بعلاج وجراحة أصابع القدم اليسرى للطفل، أو آلام الفك الناتجة من شفط الرضاعات البلاستيكية.
ومع كل هذا فإن طفل هذا الزمان يصاب بالتهاب اللوزتين إذا شرب فنجان شاي، ويصاب بالدوسنتاريا إذا ركت ذبابة على أنف أحد والديه، ويتقشر جلده برغم إخضاعه للاستحمام يوميا باستخدام أنواع من الصابون لو وجدناها على ايامنا لأكلناها ولعقنا شفاهنا دون أن يصيبنا ضر أو أذى.
لماذا كل هذا؟ لا أملك الإجابة ولذا فإن حيرتي تزداد وخاصة عندما اقارن حالهم بحال جيلنا الذي لم يكن يتعاطى الاستحمام إلا في المناسبات الدينية، وكنا نخاف من الاستحمام ونكثر من الصياح والعويل لتفاديه، وكان أهلنا يستخدمون صابون الغسيل لفرك جلودنا وكان صابون ذلك الزمان يحتوى على صودا كاوية تهرى جلد التمساح.
وكنا نأكل طعامنا من أطباق لو رآها طفل من زماننا الحالي، لانفجرت قرحته هلعا، فقد كانت الاطباق والصحون جزءاً من التركة يورثها الآباء للأبناء، ولم يكن الناس يحفلون كثيرا بغسلها عقب كل وجبة ليس فقط من باب الحرص على مصادر المياه بل وحفاظاً على رائحة الاجداد، واستنادا إلى فلسفة تقول إنه لا معنى لإزالة آثار نوع من الطعام عن الطبق لوضع نوع آخر فيه مادامت أن جميع أنواع الأطعمة ستختلط في النهاية داخل المعدة.
ولم يكن الذباب على أيامنا ينقل الباكتيريا، ومن الثابت تاريخياً أن أبناء جيلنا التهموا الذباب بكميات تجارية ليس حباً فيه، ولكن كأمر لا مفر منه، فقد كانت لكل عائلة حصة من الذباب تتناسل وتتكاثر وتطير وتتحرك أينما شاءت، دون أن يعترض سبيلها أحد بل وكان الواحد منا يقوم ويقعد والذباب يغطي جسمه دون أن تقوم الدنيا وتقعد كما يحدث الآن عندما يتصدى أركان حرب كل عائلة بالرشاشات والمبيدات ليصرعوا الذباب المفترى عليه، فسببوا بذلك دون أن يدروا ثقباً في الاوزون وكان الاوزون في سابق العصر والاوان يعيش في أمن وسلام بعيدا عنا ولم يكن اسمه يرد حتى على لسان مدرسي العلوم الطبيعية.
يبدو لي أن ما نجح فيه جيلنا وفشل فيه عيال آخر الزمان هو المصالحة وتطبيع العلاقات مع الطبيعة، فقد كنا صغارا وكبارا نتعامل مع الأشياء كما وجدناها، لا نفلتر الماء ولا نحارب من الكائنات الاخرى إلا التي تبادئ بالعدوان كالعقارب والأفاعي، أما أطفال اليوم فقد ولدوا في عالم تتسابق فيه شركات الأدوية لاختراع الأمراض وتغليف السم بالدسم، وتحسب فيه الأمهات أن شبابهن سيحترق إذا أطعمن أطفالهن من أثدائهن ويصدقن ما تقوله تلك الشركة من أن البان كذا وكذا المجففة مثل لبن الأم، وكيف يجوز ذلك؟ تلك ادمية وهذه بقرة وكيف ترضى أم أن تعطي وليدها ضرع بقرة حتى ولو كان ذلك بشكل غير مباشر؟
jafabbas19@gmail.com