في مرحلة وسيطة من مراحل حياته الغرائبية يقرر )غرنوي( – بطل رواية العطر لباتريك زوسكند – الخروج من مدينة باريس وهجر مهنة العطور التي حقق فيها نجاحا أسطوريا يعود في الأساس إلى امتلاكه حاسة شم فوق طبيعية تجعله يحدد الفروقات العطرية الطفيفة المنسابة في الهواء سواء أكانت عبق ورود أو رائحة جيفة على بعد أميال. المهم خرج )غرنوي( في ما يشبه الخروج الصوفي أو الرسولي واختار جبلا قصيا ليعكتف داخل إحدى مغاراته متلفعا بالظلام ومتوسدا الرطوبة ويحيى على ذاكرته الشمية فقط؛ إذا اشتهى طعاما أو صورا أو سمع صوتا، كل شيء يترجم لديه إلى رائحة تحيل ظلامه وعزلته إلى حياة (عطرية) متكاملة.
مكث السيد )غرنوي( في عزلته هذه إلى أمد طويل يتأمل الكون ويتحسسهما عبر أنفه وذاكرته العطرية، لا يحس بالجوع، أو رغبة في اختلاط، أو دافع إلى الرحيل، أو حتى وجود في الوجود؛ حتى شف وخف واقترب من التحول إلى مجرد (رائحة) يحملها الهواء، وذلك قبل أن تتكشف الرؤى أمامه ويتكشف له (المعنى) المرتجى من حياته البائسة الحزينة غير المفهومة. ما يبحث عنه )غرنوي( كان عطرا مثاليا وأسطوريا لم يسبقه إليه صانع في معامل تقطير العطور الباريسية والأوربية.
هل أوصلت تلك (العزلة) )غرنوي( إلى هدفه رغم شذوذه – استخلاص عطر بشري من جسد فتاة فائقة الجمال – وهل يتحتم علينا أحيانا أن نصمت وننزوي وننكفئ على ذاكرتنا وننفتح على دواخلنا متأملين ومنفتحين تحسسياً على الكون والعالم والحياة وحدود المعرفة والمعنى؟ هل ما نحياه من تخبط وإرباك وفوضى في حياتنا يحتم علينا البحث عن (خروج رسولي) و(غار عطري) يغرقنا بـ)ظلام نوره( حتى نصل إلى حقيقة ذواتنا ووجودنا؟
ما اكتشفه )غرنوي( الغرائبي ربما قاده إلى المأساة وإلى تدمير نفسه والخلاص من روحه المعذبة، لكنه أشعره في النهاية بالسعادة وكشف له زيف من حوله وأوهامهم الكبيرة وجعله يعي تماما عبثية تلك الحياة الباريسية – العابرة – التي عاشها بكل مراراتها ونفاقها ولا جدواها. إلى العبث واللامعنى وصل السيد )غرنوي( وإلى هنا وصلت حياته وتوقفت وانتهت مخلفة وراءها روائح الفوضى والأنانية والظلم.
أخيرا أشير إلى أن عزلة )غرنوي( الاختيارية نتجت عن عزلة إجبارية فرضها عليه المجتمع من حوله، ضغطا وحصارا وتشويها ومحاولة للوأد حتى وهو جنين في طور الصراخ.
اعتزلوا قليلا وشموا دواخلكم، وأرواحكم، وألوانكم، وأجسادكم؛ وأوهامكم الكبرى.