-1-
زميلُنا بالصحيفة، محمد حمدان، شابٌّ مهذَّبٌ وراقٍ، وعلى درجة رفيعة من الثقافة والتأهيل الأكاديمي.
حمدان من قبيلة الرزيقات، وهو من الصحفيين القلائل، المتخصصين في الشأن الدارفوري، يعرف كل صغيرة وكبيرة، ويتعامل مع المعلومات بدرجة عالية من النزاهة والحياد.
طلبتُ منه قبل يومين، كتابة تقرير تفصيلي عن صراع الرزيقات والمعاليا.
صمت لفترة. ظننته سيعتذر عن كتابة التقرير.
شعرت أنه حزين ومحبط. ورغم ذلك، أنجز التقرير بكل مهنيَّة وتجرد، وحذر في التقرير مما سيحدث.
نهار أمس، اتصل بي الزميل عطاف مختار مدير التحرير، ليُخبرني بموت شقيق حمدان الأصغر، في اشتباكات بمنطقة أبو كارنكا.
اتصلتُ بحمدان مُعزِّياً في شقيقه، كان بصالة المغادرة في مطار الخرطوم متوجهاً إلى شرق دارفور.
أظن هذا المشهد تكرَّر من قبل.
ليست هي المرة الأولى، التي يفقد فيها زميلُنا محمد حمدان، شقيقاً له في حروب دارفور.
زميلنا عبد الله إسحاق بصحيفة (التيار)، من قبيلة المعاليا، تناقلت قروبات الواتساب الصحفيَّة، خبر مقتل اثنين من أشقائه أمس، في ذات الاشتباكات التي قُتِلَ فيها شقيق حمدان!
حمدان وإسحاق في الخرطوم، تربطهما زمالة المهنة وجوار العمل؛ ولكن ماذا إذا التقيا في أبو كارنكا؟!
-2-
الجميع كانوا يعرفون أن ما حدث سيحدث.
من كان لا يعلم أن القتال سيندلع بين الرزيقات والمعاليا.
من كان لا يعلم أن أعداد الضحايا والجرحى سيصل للمئات.
من كان لا يعلم أن القوات النظامية لن تستطيع الفصل بين القوات.
من كان لا يعلم أن ما في يد القبائل من سلاح قد يفوق ما بيد القوات النظامية في الإقليم.
هذه ليست هي المرة الأولى، وللأسف لن تكون الأخيرة…
أما الخرطوم، فهي تختار في مثل هذه المواقف الصمت المحايد، كأن ما يحدث هناك يحدث في دولة أخرى لعلها بلاد (الواق واق)!
-3-
ما حدث عارٌ سيلحق بكل سوداني في كل مكان.
في أزمنة ما بعد الحداثة، لا نزال في محطة داحس والغبراء، ولم تجف دموع الخنساء، ولا تزال دماء كليب رطبةً بذات الرائحة واللون.
حرب دافور أشعلتها ناقة!
وحروب الرزيقات والمعاليا على أرض صغيرة جرداء.
ما لا يوجد في الجواز…
أن تكون سودانياً، هذا يعني أنك قادم من بيئة لا تعرف سوى الاقتتال على أبسط الأشياء.
أن تكون سودانياً، يعني أنك تحمل جرثومة العنف!
هذا على الأقل ما يعرفه عنّا العالم في نشرات الأخبار.
وماذا عن (صحن الصيني).. هل كان الزعيم إسماعيل الأزهري خادعاً أم مخدوعاً؟!!
أم هي رواية الشاعر الطيب برير:
هيَ.. فكرةُ البيتِ الذي ستر الطّلاءُ أنينهُ
واسْتوطنَتْ في جَوفهِ كُلُّ الشُّرُوخْ.
في هذه الوطن كل شيء ذو قيمة وثمن، الأرض والمياه والحيوانات والأحذية القديمة، ما عدا الإنسان؛ فروحه لا تساوي ثمن رصاصة صدئة تخرج باحثة عن هدف مجهول!
-4-
المواشي تتحكم في مصائر أصحابها!
لا توجد مؤشرات تدعو للتفاؤل بأن في الإمكان إنهاء النزاعات القَبَليّة في دارفور في الوقت القريب.
معطيات الصراع وأسبابه ما تزال متوفرة.
وما تزال القبائل لا تثق إلا في السلاح الذي بين أيديها!