بالصور..الأكروبات السودانية .. بذرة العلاقات السودانية الصينية ووسيلة للإستثمار الثقافي المنسي

ذهب الرئيس الأسبق نميري الي مؤتمر القمة الافريقي في أديس أبابا ذات مرة وكانت علاقات السودان الاقليمية متوترة حينها فقدمت صبية فرقة الأكروبات السودانية “لبني” عرضا باهرا فإلتفت الرئيس للسفير السوداني وقال ” ما قدمته هذه البنت في ربع ساعة تعجز الخارجية عن تقديمه في عشرين سنة “.
وهذا ما يشير الى دور الفنون المؤثر من تعريف بتاريخ الأمة وأمجادها فهي تخاطب الوجدان وتقدم رسالة سريعة ومباشرة ، كما يؤكد اهمية الاهتمام بها من قبل الدولة ففرقة الاكروبات السودانية نفسها نشأت في فترة من الفترات كان هناك إهتمام متصاعد بدور الفنون في التنمية الثقافية والإجتماعية بصورة عامة فقد نشأت كفكرة للرئيس الراحل جعفر محمد نميري في إحدي زياراته لجمهورية الصين الشعبية حين سنحت له فرصة مشاهدة الاكروبات الصينية وبعد ذلك صمم أن يوطن هذا الفن في السودان .
وفي بداية السبعينات بدأ تفعيل البروتكول الثقافي السوداني الصيني وتم إختيار عدد من الأطفال من السودان في العام 1971م كانوا هم المتاحين في الساحة الفنية الثقافية إذ أن أغلبهم كان له علاقة ببرامج الأطفال ، و لهم علاقة بالمنطقة الوسط وهي منطقة أمدرمان والمنطفة القريبة من الإذاعة وعلاقات ممتدة كزملاء وأصدقاء وهم من أسسوا المجموعة الأولي للأكروبات، وكان عدد من الأطفال في سلاح الموسيقي بمدرسة الموسيقي للأطفال نواة لفرقة الأكروبات الموسيقية اي التي كانت تؤدي الموسيقي التصويرية للالعاب.
بعد ذلك جاء وفد من الخبراء الصينيين وتمت معاينة عدد من الأطفال ونجح خمسون طفلا وطفلة كانوا النواة الأولي لفرقة الأكروبات السودانية ، ذهب هؤلاء الأطفال لجمهورية الصين الشعبية وفي مدينة “أوهان” خضعوا لبرامج تدريب مكثف لمدة أربع سنوات متتالية وكان أداء الفرقة عاليا جدا لدرجة أذهلت المدربين الصينيين بحضور جماهيري كبير وتم تقديم عدد كبير جدا من الفقرات من بينها الفنون الأدائية التي تعتمد علي جماليات الجسد وحركته .
و ما زالت العروض المذهلة لهذه الفرقة التي سحرت العيون وابهجت النفوس في فترة السبعينات و الثمانينات تعيش في ذاكرة السودانيين وكانت الفرقة الاولى من نوعها في منطقة افريقيا والشرق الاوسط.
ويقول عبد الله حسب الرسول علي مدير الإدارة العامة للفنون المسرحية والأدائية (وهو ممثل ومخرج ومصمم إستعراض) أن أول عرض حضره لفرقة الأكروبات كان بإستاد شندي في السبيعنات حيث أدت الفرقة عدد من العروض المذهلة لدرجة وصف البعض هؤلاء الأطفال بالسحرة ووصفت العروض بغير العادية فقد شملت السير علي السلك وتسلق العمود والصعود فوق بعضهم وغيرها من حركات الأكروبات المدهشة.
و توفر لفنانيي الأكروبات قدر عال من الإهتمام والرعاية بإعتبار أن الرئيس جعفر نميري كان يعتقد أن هذه الفرقة واحدة من الجواهر التي ساعدت كثيرا جدا في علاقاته بالمحيط الإقليمي، وكانت ترافقه في كل رحلاته الخارجية فرقة من الأكروبات أو الفنون الشعبية وكانت تسافر معه أو تسبقه بالسفر بإعتبارهم أبلغ من يقدم التعريف بالهوية السودانية ومدي تحضر الشعب السوداني ، وظلت الفرقة صامدة في تلك الفترة لأن كل المقومات التي كانت تعينها موجودة “ولكن في السودان تبدأ الفكرة قوية ثم تأخذ طريقها نحو الإضمحلال ” كما يقول أستاذ عبد الله .
وكان الرئيس نميري يزور مقر الفرقة بين وقت وآخر ويشهد تدريباتهم ويمازحهم وفي احدى زياراته طلب منهم الحديث عن تجربتهم ورؤيتهم لمشروعاتهم المستقبلية وكذلك الحديث عن المشاكل التي تعترضهم، وكانت الفرقة تتبع لوزارة الثقافة وإدارة الفنون المسرحية والإستعراضية وكان علي رأسها الفكي عبد الرحمن وتم توفير كل الإمكانات لها من مستلزمات تدريب وغذاء وإلحاقهم بمدارس متميزة. وبعد فترة زار الرئيس نميري الفرقة مرة ثانية ووجد أن بعض الأشياء بدأت في التناقص فأصدر قرارا بتبعية الفرقة لوزارة الدفاع لميزانيتها المفتوحة وكان ذلك في اوائل الثمانينات وكان يرى ضرورة إستمرارية هذه الفرقة لعطائها الثر وتم تعيين المرحوم اللواء جعفر فضل المولي التوم مسئولا عن الفرقة علي أن لا تُعسكر . واستمرت الفرقة في تقديم عروضها بكل ولايات السودان لتترك أثرا إيجابيا علي المجتمع .
ومضي أستاذ عبد الله في حديثه قائلا : ” الإخوة في الصين لديهم إعتقاد راسخ بأن هذه الفرقة هي بذرة الصداقة السودانية الصينية وظلت رعايتهم لها سنويا والآن المجموعة التي تتدرب في الصين هي المجموعة السادسة وهم ستة أطفال ومعهم مدرب ولا زالت جمهورية الصين تتابع هذه الفرقة ولكن كما أسلفت بأننا نبدأ المشروع ومن ثم نبدأ في التناقص فقد دب الوهن في فرقة الاكروبات السودانية لاعتبارات كثيرة أولها عدم مواصلة التدريب ، ففن الاكروبات من الفنون التي تعتمد علي المهارات الجسدية التي ينميها التمرين المتواصل ولكن هناك إشكالية في إستيعاب المجموعات بسبب عدم التوفيق بين التدريب ومتطلبات مراحل التعليم الاكاديمي وحتي شروط التعاقد والتوظيف للأكروبات يفترض أن تكون مختلفة لشخص يقدم جهدا ينطوي علي درجة عالية من الخطورة وهذا يتطلب وجود نظرة إيجابية “.
وأضاف أستاذ عبد الله أن من المشكلات التي تواجه الفرقة ايضا عدم وجود معينات للتدريب وكذلك المتابعة والتغذية والداخليات والترحيل ومع كل هذه العقبات ظلت الأكروبات موجودة بفضل العلاقة الحميمة للاعبين بهذا الفن حيث أن نشأتهم منذ الطفولة ارتبطت بالأكروبات .
كما ان الفرقة كانت تؤدي منذ ميلادها نحو عشرين فقرة الآن ضعفت الفقرات المؤدية وبحاجة لعمل تأسيسي في البنيات التحتية ، وكذلك الفرقة الموسيقية التصويرية للأكروبات تكاد تتلاشي واصبح بها ثلاثة أو أربعة أفراد فقط مع ما لها من قيمة أساسية في إكمال جانب الأداء كخلفية للأداء الحركي .
ويعلل الأستاذ عبد الله حدوث هذا التراجع المريع بتناقص الإهتمام بالفرقة من قبل الدولة وإنصراف الإعلام عنها لعدم وجود فلسفة لإستمرارية الثقافة واصفا ضم الفرقة لوزارة الثقافة فيما بعد بانه كان واحدا من الإشكاليات الكبيرة جدا التي واجهت الأكروبات لأن الوزارة نفسها غير مستقرة ” وزارة الثقافة لا تملك رؤية كلية واضحة لهذه الفرق ، ووصل الأمر الي القول بان الثقافة عمل مجتمعي ، نعم هي عمل مجتمعي ولكن يحتاج للتخطيط وقراءة أثره في الساحة”.
وذكر مدير الفنون المسرحية ان مسئولا من الحكومة الحالية في بداياتها زار الفرقة وتحدث عن وجوب ألا تمكث الفرقة بالسودان بل يجب أن تسافر خارج السودان لتقدم عروضها الشيقة و تدخل عملة صعبة للبلاد وكذلك لتدعم العمل السياحي والإقتصادي بصفة عامة “ولكني اقول اذا أردت عملا جاذبا للفنون لا بد من الصرف عليه ويجب توطين المشاريع الثقافية أولا ثم تستثمر فيها بعد ذلك ، وحتي لا يكون الحديث عن مثل هذه الأشياء مجرد شعارات لا بد من الدراسة ومعرفة وسائل تنفيذه ومن ثم توفير بنية تحتية للثقافة ووضع إستراتيجيات قبل الحديث عن إستثمار” .
وختم الأستاذ عبد الله حديثه قائلا “نحن من بدأ مشروع الاكروبات في السبعينات وكان من الواجب انشاء معهد لتوطين هذا الفن ولكن عدم التخطيط السليم وعدم النظر لأشيائنا بشكل إيجابي جعل التراجع نتيجة حتمية ، وما زال من الممكن اصلاح المسار فالرعيل الأول موجود ومنهم من له القدرة علي ممارسة الأكروبات بشكل إيجابي….مثلا إحلام سردار لا زالت تمشي علي الحبل وهذا يؤكد ان القاعدة كانت سليمة “.
وأوضح عبد العظيم علي طه مدير إدارة الفنون الإستعراضية أحد أفراد الرعيل الأول للفرقة ان الدفعتين الأولي (تخرجت عام 74 ) والثانية ( عام 82 ) تم توفير كل المعينات لهما وعندما عجزت وزارة الثقافةعن دعم الفرقة وبعد الشكوي تم تحويل الفرقة لوزارة الدفاع وبعد ثورة أبريل 1985 تم إرجاع الأكروبات مرة ثانية لوزارة الثقافة وكانت الإشكالية ان وزارة الثقافة إمكانياتها ضعيفة ومسؤوليها ينقصهم إتخاذ القرار وبعد الشكوي للرئيس عمر البشير تم التحويل مرة أخري لوزارة الدفاع ولكن هذه المرة كان الأمر مختلف وهو عسكرة الفرقة ومنحها رتب أقل فتم رفض ذلك ووافق البعض فأصبحت الفرقة منقسمة لجزئين . وبعد ذلك لم يكن هناك إهتمام بدفعات جديدة وأصبحت الحكومة الصينية تقدم منح ما بين أربعة أو خمسة أو ستة كل سنة ليتدربوا سنة واحدة ولا يمكن تسميتهم بالدفعة لأن السنة الأولي يتم تعليم التمارين الأساسية فقط وفي السنة الثانية تدرس فقرات مناسبة لكل فرد ومن بعد ذلك كيفية دخول المسرح والخروج منه وعدم الرهبة من الجمهور وهكذا .
وعزا الأستاذ عبد العظيم عزوف الفرقة عن تقديم عروضها الي النواحي الإقتصادية وأثرها في الإقبال الجماهيري وكذلك ارتفاع إيجارات المسارح مطالبا الدولة بالتدخل بصورة إيجابية بفرض إعفاءات ضريبية مثلا وتشجيع الفرق الثقافية ، وأوضح ان الدفعة الأولي للأكروبات معظمها تعمل الآن في حقل التدريب ولديهم خبرات غير موجودة حتي في الصين نفسها .
وقالت إحلام سردار عضو الدفعة الأولي للأكروبات السودانية والمتخصصة في السير علي الحبل بإرتفاعات شاهقة انها شاركت في سيرك عالمي بسوريا وقدموا عروضا رائعة بعدة مدن سورية وكان هناك تنافسا بينهم ودول رومانيا وأوكرانيا إضافة الي سوريا ومثلت السودان في السير علي السلك بإرتفاع شاهق وتم تكريمها بالمهرجان كما شاركت مع الفرقة في الجزائر ومصر وكينيا ويوغندا وأبوظبي وجيبوتي وقطر والعراق وليبيا والصومال والكويت وعدد من الدول الاخرى .

وقالت ناهد شرحبيل أحمد رئيس فرقة الأكروبات (الدفعة الأولي أكروبات) ان إعضاء فرقة الأكروبات يحاولون بمثابرة الإبقاء عليها في الساحة ” نحن بذلنا جهود جبارة لتكون هناك أكروبات بالسودان ، كان هناك إهتمام حتي فترة الثامنينات وبعد تعاقب الحكومات أصبحت منسية والدليل الشباب الآن لا يعرف عن الأكروبات شئيا ، ولا يقبل أن تقدم فرقة الأكروبات للوفود الأجنبية فقط فالأكروبات للعرض لا للتخزين ، ولكننا عندما نطالب بتقديم عروض نلقى الرفض والتعلل بالضرائب ، تدمرت كل بني الأكروبات التحتية ولم يتبقي سوي هذه القاعة فقط و اذا إنهارت هذه القاعة لن يكون هناك مكانا للتدريب وأقول لوزارة الثقافة الإتحادية اذا لم تستطع رعاية الأكروبات فلتوقف التبادل الثقافي خاصة في مجال الأكروبات!” .
وتابعت “هناك إصرار منا الآن علي اكمال أعضاء الفرقة لتعليمهم وذلك بتجميد الدراسة أثناء الفترة التدريبية بالصين حتي لا يفقد العضو فرص التعليم ويواصل حتى الجامعة ويضيف لنفسه وهذا مكسب للأكروبات ونطمح في يوم من الأيام أن يكون لاعب الأكروبات وزيرا ، ونأمل ان تضع الدولة تسهيلات تحول دون حرمان أعضاء الفرقة من التعليم ” .
ويقول الأستاذ السر علي حامد – عضو الفرقة الموسيقية لفرقة الأكروبات السودانية أن تكوين فرقة موسيقية للأكروبات السودانية كان بهدف ربط العلاقة بين السودان والصين ودراسة الآلات الصينية والتخصص في الموسيقي التصويرية خاصة وأن السودان لا يوجد به هذا النوع من الموسيقي وهي تصوير للحركة أو الشخص قبل ظهوره وهنا الفرق بينها والموسيقي المصاحبة فكل الموسيقي في الأعمال الدرامية التي تقدم الآن هي غنائية مصاحبة لا علاقة لها بالحركة وليست موسيقي تصويرية. وأضاف “اؤكد ان الأطفال الذين يرسلون الي الصين بمنح لمدة ستة أشهر أوعام ليسوا بكفاءة الأكروبات القديمة المعروفة .. هذه نكسة للأكروبات السودانية ” .

أما الأستاذ ابراهيم عبد الله علي مدير الشئون الإدارية للأكروبات والفنون الإستعراضية وعضو سابق بالفرقة فلا يعفي الإدارات السابقة من دورها في ما اسماه “التدهور الرهيب” للفرقة وقال : ” نحن جئنا للإدارة من داخل الأكروبات وإنشاء الله ستنصلح الأمور عندما نعكس هذا التدهور للوزارة ، وحتى الثمانينات كان الفصل الثاني مخصص للفرق وليس لأشخاص متعاونين .. هناك 17 متعاونا يتم الدفع لهم من الفصل الثاني المخصص لفرقة الأكروبات والفنون الشعبية ، و معدات صالة التدريب لم تجدد منذ العام 74 و لا ندري مع من نتحدث وأناشد المسئولين بالإلتفات الي الأكروبات السودانية لإعادتها الي أمجادها السابقة كفرقة رائدة في المنطقة “.

تقرير: فهمي محمد السيد………تصوير: محجوب محمد الحسن

الخرطوم 6/ 5/ 2015م (سونا)

Exit mobile version