> في كل العالم، وحتى في الديمقراطيات الكبيرة والراسخة، باتت فكرة الحزب في تراجع مستمر، وكأن الأحزاب تقف على مهب الريح، بالرغم من أنه لم تتوفر المجتمعات البشرية التي تمارس الديمقراطية على صيغة أفضل من الأحزاب السياسية لممارسة السياسة، وتكوين السلطة والحكومات، ولم ينقطع الفكر السياسي عن ابتداع أساليب ونماذج وبدائل قد تقود إلى تجاوز الحزب كإطار سياسي، ولكن ذلك لم يتم حتى اللحظة.
> الذي يعنينا هنا في السودان، أنه بتجربة الانتخابات الأخيرة ونجاحها بمشاركة أحزاب ومقاطعة أخرى، برزت أسئلة عميقة ومشروعة حول جدوى التحزُّب نفسه، أو عدم نجاعته في احتواء الفئات المجتمعية وسائر الناس داخل المنظومة الحزبية، ثم جرَّهم إلى حلبة التنافس السياسي والحزبي من خلال العمليات الانتخابية. فالتفسير الوحيد لعزوف أعداد مقدرة من الناس عن الانتخابات والمشاركة فيها، سببه ابتعادهم عن الأحزاب ونفورهم منها، وقلة وثوقهم في قدرتها على تحقيق كل طموحاتهم ورغباتهم السياسية.
> ومن واقع ما يجري، نلحظ أن التفاعلات والتحولات الاجتماعية التي أصبحت متسارعة أكثر من المعهود في هذا الاتجاه المتعلق بالانتماء والتعبير السياسي، وذلك بفعل عوامل مختلفة، تحتاج إلى قراءة دقيقة لمعرفة اتجاهاتها وصيرورتها، فالعمل السياسي برمته يضمحل في مواجهة النشاط السياسي خارج الأُطر الحزبية وما تمثله منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي من بدائل لتلقي المعلومات وتبادلها واستخداماتها المختلفة، ومنها التوظيف السياسي للمعلومات والبيانات والحقائق والتحليلات، ولم تعد المواعين الحزبية قادرة على استيعاب وحمل كل الموجود والتعبير عنه في نسق منضبط ومتجانس.
> نحن والحركة السياسية في بلدنا في مأزق يواجهه غيرنا في العالم الفسيح. فبعد سنوات قليلة، لن تكون أو قل لن تستطيع الديمقراطيات التحليق بجناحين كانا حكراً على «ريش التحزب» والتنظيمات والكيانات السياسية، وإن استطاعت فإنها ستطير بأجنحة مهيضة وضعيفة لا تعبر عن الأغلبية في مجتمعاتها ولا تضم بين أحضانها كل النشاط السياسي العام. هذا المأزق يتبدى في حقيقته كظاهرة اجتماعية أكثر من كونه تحولاً سياسياً. وحتى لا نجتهد في تفسير ما شهدناه في العملية الانتخابية الأخيرة وتراجع نسب المشاركة فيها من الناخبين، يجب أن نُقر بأن هذه التحولات والتمظهرات الاجتماعية السياسية، معقدة بحيث لن تترك مجالاً للنظر في حلول أخرى على وجه السرعة، لتلافي آثارها..
> مجتمعنا السوداني يمر بمرحلة جديدة لا سابق لها، كل عُراه القديمة المتينة مهددة، وقد لعبت السياسة دوراً كبيراً في تهشيم عظامه، ولن تُفلح الحياة الحزبية ومناهجها وأساليبها وهياكلها وتوجهاتها القديمة البالية في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وترميم ما يمكن ترميه، ووضع العلاج في الفم والضمادات على الجرح. يجب من الآن التفكير في صور جديدة للتكوين الحزبي، وكيفية ممارسة العمل السياسي، كيف ينجذب الشباب للأحزاب وأفكارها وبرامجها؟ وكيف تعبِّر الأوعية الحزبية عن قضايا المجتمع والمرأة والكتل الاجتماعية المتنوعة؟ وكيف ينتظم الوجدان الوطني وتناسق حركته وتوجهاته؟
> هناك بالفعل تيارات وقوى اجتماعية تظل على الدوام بعيدة عن الأحزاب، وقد صارت هذه التيارات والقوى الشعبية ذات تأثير بالغ وكبير، وهناك قيادات في المجتمع لم تتمكن الأحزاب من استقطابها، فالمطلوب اليوم قبل الغد إيجاد سبل وطرق تسهل هضم الحزب والقبول به والانضمام إليه. فالمؤتمر الوطني مثلاً، وهو من الأحزاب ذات القدرة على تكييف وتحديد مصائر الناس، بمعنى هو بالأساس في اكتشاف قيادات جديدة والبحث عن شخوص داخل المجتمع لها قابلية للتعاطي مع القضايا المختلفة، وتجد القبول عند الناس، هذا إن أراد الاستمرار في قيادة الدولة والمجتمع، وما يسري عليه يسري على كل الأحزاب السياسية التي صارت خالية الوفاض من القيادات، وتقف وحدها في مواجهة مستقبلها كشمعة في مهب الريح!!