مدخل:
المشهدُ لن تجده إلا في الدراما وعالم الخيال؛ أن يجلس شخصٌ على مقعد من البلاستيك، وهو يشرف على حفر قبره، وهو يفعل ذلك بكل ثبات وهدوء، وعلى وجهه طيف ابتسامة ساخرة من الحياة.
درمة بجلبابه الأخضر الشهير يخطِّطُ للقبر، وشيخ أبو زيد يشير بإصبعه، والاثنان يتجاذبان أطراف الحديث، كأنهما يشرعان في غرس نخلة!
-1-
في أواخر التسعينيات، اطَّلعت على حوار شيِّق ومُثير بصحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية، مع الشيخ محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الشريف، قام بإجرائه الصحفي الفلسطيني كمال القبيسي.
الحوار لم يكن تقليديَّاً عن آراء فقهية، أو عن الأوضاع الأكاديمية بالأزهر؛ ولا هو حوار يطرح أسئلةً على شاكلة الأسئلة التي تطرحها سجلات الأوراق الثبوتية عن النشأة والميلاد والمؤهلات الأكاديمية.
أسئلة كمال القبيسي جاءت على طريقة رسم صورة عبر الموجات فوق الصوتية، للمنظومة القيمية التي تشكل آراء وتصورات الشيخ طنطاوي في الواقع التطبيقي والممارسة الحياتية، في إدارة الأسرة ومجال العمل.
كثيرٌ من رجال الدين في كل الديانات، تُطاردهم تهمةُ المفارقة بين ما يقولون وما يفعلون.
كان كمال القبيسي في حواره مع الشيخ طنطاوي، ينسج مجموعة من الأسئلة الصغيرة المتداخلة، التي تكوِّن فكرةً وتُعطي انطباعاً عن الشيخ، مثل أن يسأله: (ماذا تفعل إذا خرجت ابنتك ليلاً من المنزل دون إذنك؟) ومع الإجابة ينتقل القبيسي إلى سؤال آخر: (وماذا إذا فعل ابنك ذات الشيء؟).
محصلة الإجابتين مُلحقة بها أسئلة صغيرة أخرى، تُعطي تصوراً تقريبياً لرؤية الشيخ طنطاوي لموضوع حرية المرأة، لا في ما يكتب ويقول، ولكن في ما هو متحقِّقٌ في الواقع، من خلال الأفعال لا الأقوال.
-2-
حينما اطّلعت على ذلك الحوار، وكنتُ منذ بداياتي الصحفية مولعاً بفن الحوار الصحفي؛ قرَّرتُ أن أطبِّق نموذجاً مقارباً لحوار القبيسي مع الشيخ طنطاوي؛ فوقع اختياري على الشيخ أبو زيد محمد حمزة، الرجل الأكثر شهرةً في جماعة أنصار السنة المحمدية.
أذكر أنني ذهبت إليه في المركز العام، واستقبلني بود ولطف وكوب شاي. شعرت بأنها ليست المرة الأولى التي ألتقي فيها بالشيخ أبو زيد، رجل متواضع وصريح يجيب عن كل الأسئلة برحابة وعفوية مُتناهية الصدق، تحدث عن زواجه وعن أيامه في القاهرة، وعن ذكريات صباه، وعن معاركه مع بلطجية الأحياء المصرية العتيقة.
كان الحوار من أروع الحوارات التي أجريتها في تلك الفترة، كنتُ أضحك بمتعة وسرور طفولي مع كل إجابة؛ فللرجل براعة نادرة في السخرية والتعبير البسيط، عن ما هو مُعقَّد ومُشْكِل.
-3-
روى الأستاذ محجوب فضل بدري، قصةً يدلِّل بها على البراعة الخطابية للشيخ أبو زيد:
(كان لديه أسلوب خطير في الخطابة. ذات مرة وفي مسجده، في خطبة الجمعة، بعدما حمد الله وأثنى على نبيه، قال “عبارةً صادمةً” جاءت كأنها إساءة عقدية للمصلين، ثم سكت برهة ثم كرَّرَها مرة أخرى، وهو يوزع نظره على كل من في المسجد، والمصلون كأن على رؤوسهم الطير، ثم قالها ثالثة حتى كاد البعض أن يخرجوا من المسجد غاضبين، ثم قال إن ما قلته لكم اسم تسريحة لشعر بناتكم، ثم انطلق في خطبة قوية، هاجم فيها العادات والتقاليد الدخيلة على المجتمع).
الجموع الغفيرة التي شيَّعت الرجل، تؤكِّد عظمة مكانته، لا في نطاق جماعته فقط، ولكن لدى كل أفراد المجتمع. رحم الله شيخ أبو زيد، فهو من الأرقام السودانية العامة ذات النكهة الخاصة والمتفردة في الأقوال والأفعال.
مشاهدة الشيخ ابو زيد يشرف على حفر قبره ويوجه درمــة – إضغط هنــــــــــــا
مشاهدة الشيخ ابو زيد يحكي لـ ” درمة ” كيف حلم بوفاته وتشييعه – إضغط هنــــــــــا