يبدو أن بلادنا مقبلة على مركزية جديدة تقبض أنفاس الحكم اللا مركزي وتقضي عليه نهائياً، والشاهد على ذلك مؤشرات عديدة منها إلغاء انتخاب الولاة وتعيينهم من قبل الرئيس، ليفرغ النظام اللا مركزي من محتواه ويصبح كالوردة بلا عطر وصنماً عجوزاً يعجبك منظره ويسوؤك مخبره. أمس مضى المؤتمر الوطني في طريق النكوص عن أهم إنجازاته، ألا وهي الحكم الاتحادي بسلب الولايات حق ترشيح عضوية مجلس الولايات، وقد طلب من الولاة المساكين الترشيح من عشرات القيادات من كل محلية ثلاث قيادات ورفعهم للخرطوم لتختار منهم أعضاء المجلس المرتقب. وبعد أن يختار المؤتمر الوطني مرشحيه من المركز يتم التقديم لهم عن المفوضية الولائية، ومن ثم ينعقد المجلس التشريعي في كل ولاية ليبصم الأعضاء على اختيارات المركز ويصبغون عليها الشرعية، ويصبح هؤلاء الأعضاء ممثلين مفترضين لولاياتهم يحرسون مصالحها، وينافحون عنها بنص الدستور.
ولكن هل نائب برلماني تم اختياره بتلك الطريقة يستطيع أن يرفع صوته فوق صوت من اختاره، ولن أقول ولي نعمته؟؟
إن فلسفة الحكم الاتحادي تقوم على تقصير الظل الإداري والاستقلال النسبي للولايات عن المركز، وحقق هذا النظام قدر كبير من الرضا في الأطراف التي تثور في مواجهة المركز، لكن من العام الماضي أخذت الحكومة على عاتقها الزحف المقدس نحو القضاء على الحكم اللا مركزي وإحالته إلى هياكل بلا مضامين، وبسط السيطرة الاتحادية وسلب الولايات حق حكم نفسها.
الولاة سيتم تعيينهم من الخرطوم، وأية ولاية يأتون لها بوالٍ ليس منها ووزراء يتسلم الوالي كشفهم من القيادة في الخرطوم، وعليه تسكينهم في الوظائف المطلوب تعيينهم فيها، والوزراء في قناعتهم أنهم مختارون من جهة أعلى من الوالي فلماذا يطيعونه وينفذون توجيهاته.
ومن قبل كان لدينا نظام مثل هذا لم يحقق استقراراً ولا عدلاً، ولم ترتح الخرطوم من كثرة الاحتجاجات اليومية والمطالبات التي تنهال على المركز يومياً، والوفود تطالب إما بإعفاء والٍ أو الشكاوى من المعتمدين.
ولكن الآن يعود المؤتمر الوطني إلى نظام أكثر مركزية مع الإبقاء على شعارات براقة عن حكم الناس لأنفسهم، وهي شعارات بلا مضمون ومحتوى.. نعم التجربة السابقة في اختيار الولاة داخل المؤتمر الوطني صاحبتها سلبيات كبيرة وتشوهات في الممارسة وأخطاء في التطبيق، لكن هل تلك الأخطاء يمكن علاجها بتدابير سياسية؟ أم بالانقضاض على النظام برمته والقضاء عليه وجعله هيكلاً هرماً وخرباً مثل الذي نحن نصممه الآن بمحض اختيار المركز وصمت الولايات خوفاً وطمعاً في أن ينال البعض وظائف صغيرة لإرضاء نفسه.
يخطئ صناع السياسة التقدير إن ظنوا أن الحكمة منبعها الخرطوم، وأن تقوية نفوذ المركز من شأنه تحقيق الاستقرار والأمن، ووأد الاحتجاجات والشكاوى التي تتكاثر في مناخ مصادرة حقوق الناس.