شاهد على العصر، ومعلم للأجيال في الوسط الإعلامي الواسع، هو أحد أهم رجالات من صنعوا تاريخ هذا الوطن.. علي شمو الذي بارح لتوه مقعد رئيس مجلس الصحافة والمطبوعات، يحتفظ بتاريخ مهني طويل.. كان مسؤولا في حقب مختلفة من تاريخ السودان.. الحديث مع شمو له طابع خاص، ويمثل إضافة كبيرة للمكتبة السودانية، نجحنا في مساحة زمنية مع البروف أدلى فيها لنا بإفادات مهمة في تاريخ السودان والمنطقة.. وفيما يلي مقتطف جلسة حوارية معه لـ(اليوم التالي) تنشر بالتزامن مع مجلة (السمراء). * بروف شمو ماذا سيفعل بعد خروجه من مجلس الصحافة والمطبوعات؟ – سأكون في بيتي وسوف أدّرس، وسأحاول أكتب. * هل هي مذكرات على شمو؟ – أنا متردد الآن، ففي كتابي (تجربتي مع الإذاعة) حاولت أتكلم من خلاله عن قضايا سياسية، لكن لم يكن عندي رأي فيها، ذكرت الأحداث فقط، ولم أذكر رأيي فيها، حبيت أركز على الجانب المهني وتاريخ الوقائع، فمثلا أنا من الذين عاصروا ثورة يوليو أكثر من المصريين، فهناك فكرة للكتابة للتوثيق للجانب السياسي الذي عاصرته. * إذاً دعنا نشرع في التدوين صحفياً بتتبع مسارات حياة شمو.. – أمي توفيت وأنا ابن 4 سنوات، لم أتذكرها، لكني أتذكر أمي الثانية وهي زوجة أبي والتي ربتني وإخواني، وكان ذلك في النهود، وهي مدينة غريبة جدا، فالنهود عاصمة نظارة الحمر، ومع ذلك ناس النهود يمثلون كل السودان، فيها الجعليون والشوايقة وكل القبائل.. والدي كان تاجرا أتى من المسلمية للنهود، كان يصدر الإبل والبقر لمصر، وعائلتنا معروفة بهذه التجارة لمصر، لكنها توقفت قبل ما يقارب 40 سنة، فكان أبي يأتي بالإبل من دارفور لمصر.. عشت في هذه البيئة، درست في الخلوة أولا، ثم المدرسة إلى أن وصل عمري 9 سنوات أتيت إلى أم درمان وتركت والدي في النهود. * ذهبت إلى أم درمان بمفردك؟ – نعم جئتها بمفردي وطاب لي المقام مع شخص صديق والدي، فبعد أن أكملت الكتّاب، ذهبت لامتحان الابتدائي، فكان الكل يمتحن في كردفان لفصل ابتدائي يتكون من 40 شخصا. * وبالطبع كانت لك هوايات في هذه السن.. – لم تظهر لي أية هوايات في هذا العمر، ولكن عندما وصلت أم درمان ظهرت هواياتي وأولها كرة القدم، وبعدها لعبت في المعهد ونواد من الدرجة الرابعة؛ لعبت في ناد اسمه الكراكسة في الدرجة الرابعة، وعندما ذهبت إلى مصر وكان عمري 16 سنة كان لديّ فرصة لأن ألعب في أشبال الزمالك.. كانت فترة مشهودة جدا لي، وكان هناك مدرب انجليزي لأول مرة يزور المصريين ويزور نادي فاروق (الزمالك حاليا)، لعبت شهورا إلى أن بلغت 18 سنة، ونمت هواية كرة القدم، واستمريت معها كلاعب وناقد ومحلل رياضي في الإذاعة والتلفزيون والصحافة. * حسناً، ربما كانت لديك ميول سياسية في تلك الفترة أيضاً.. – نعم.. فوالدي كان اتحاديا، وكانت هناك أحزابا اتحادية، فالأحزاب في السودان نشأت في عام 1945، وبعد مؤتمر الخريجين نشأت الأحزاب السياسية لأول مرة، فاتجاه التيار الوحدوي كان له 6 أحزاب؛ الأشقاء، والاتحاديين، والأحرار الاتحاديين، ووحدة وادي النيل، وغيرها، وكان هناك حزب واحد فقط وهو الأمة، وهو استقلالي، وكان الحزب الجمهوري الاشتراكي، ووالدي كان من الاتحاديين الأشقاء، وسمي كذلك لأن من أسسوه كانوا أشقاء؛ منهم إسماعيل الأزهري وعلي الأزهري، ويحيى الفضلي ومحمود الفضلي، حسن عوض الله ومحجوب عوض الله، عبد الله عبد الرحمن وعلي عبد الرحمن، وهكذا، فكان والدي معهم، فكنت مع والدي اتحاديا.. إبانها عاصرت حاجة مهمة جدا حدثت وهي بدايات التيار الإسلامي، أتى اثنان من مصر هما عبد الحكيم عابدين، والثاني سعيد وكانا أخوين أرسلهما حسن البنا للسودان حتى ينشرا الحركة، فأتذكر ذلك وأنا عمري 14 سنة. * مقاطعة.. الاهتمامات السياسية والميول تفتقت مبكراً فيما يبدو؟ – نعم.. بل أكثر من ذلك، كنا نمشي المظاهرات والنوادي السياسية، ونعلم ما يدور في البلد من حوارات سياسية وتيارات حزبية، وكانت الصحافة المصرية التي تأتي إلينا من مصر تشكل الرأي العام، فكان هذا هو الجو العام.. فأتى هذان الاثنان إلى السودان، وكان هذا هو بداية التيار الإسلامي، كانا يتحدثان عن العدالة الاجتماعية والإسلام دين ودولة، وكانا يتحدثان في جامع أم درمان الجامع العتيق، وبعض الأندية، فكنا لأول مرة نرى شخصا وسيما يلبس بدلة شيك وطربوش ويتكلم عن الإسلام، وكانت صدمة للمجتمع بأن يتحدثان عن الدين بهذا الزي، كانا بارعين في الخطابة وأصواتهما جميلة، فغرسا بذرة الحركة الإسلامية التي تولاها بعدهما علي طالب الله، وكان اتحاديا، فالاتحاديون هم الذين عملوا الحركة الإسلامية، فلم يكن هناك تناقضا بين التيار الإسلامي والاتحاديين، لأن الإسلاميين لم يطرحوا وقتها حزبا سياسيا، كانوا يركزون على الدعوة وإصلاح المجتمع من جوانب اجتماعية وثقافية وحضارية، فهي لم تدخل صراع السلطة إلا متأخرا، ولذلك لم يكن هناك تناقضا إطلاقا. * سنعود لتماسات السياسي مع السيرة الذاتية.. هلا حدثتنا قليلا عن الأسرة الكبيرة؟ – والدي تزوج حوالي 7 نساء، ونحن خمسة أشقاء من أم واحدة، وأمنا اسمها زينب الحسن، والدها من البسابير، ووالدته من البرياب، عندي أخ وأخت أمهما ابنة عم والدي، وثاني أخ وأخت من أم أخرى قريبة لوالدي، فنحن مجموعة إخوان من أمهات مختلفات. * بعد المدرسة أين كانت وجهتك؟ – درست في المعهد العلمي، وبعدها للثانوي ومنه إلى مصر في عام 1949، ودائما أذكر أننا ذهبنا أنا وحسين أبو صالح في مركب واحدة لمصر، بالقطار من الخرطوم لحلفا، وجلسنا يوما في حلفا، وركبنا الباخرة في ليلتين، ثم القطار من أسوان للقاهرة في ليلة واحدة، كانت رحلة ممتعة جدا، كان هناك تضييقا أيام الحكم الانجليزي على الطلاب والتعليم والوعي، ومصر فتحت الباب للناس فذهبوا إليها، فكل ما ترينهم الآن في القطاع الذي حكم السودان من الذين تعلموا بمصر، والدخول لمصر لم يكن يحتاج لجواز، والعملة كانت واحدة، فذهبت مجموعات كبيرة جدا ودخلت جامعة الأزهر والقاهرة وكانت اسمها فؤاد وإبراهيم باشا (عين شمس)، والاسكندرية، وبعضهم ذهب إلى مدارس في حلوان، ومشتهر كانت مدرسة زراعية ثانوية، ودرس فيها أخونا إسماعيل حسن الشاعر، فالأبواب فتحت في مصر، وذهبت أعداد ضخمة للدراسة فيها. * أي جامعة اخترتها في مصر؟ – جامعة الأزهر، واخترت كلية الشريعة والقانون، ولم اختر اللغة العربية لأني كنت أشعر أني جيد في اللغة العربية، فحبيت أدرس الجانب الآخر، وكانت هناك فرصتين في كلية الشريعة والقانون، إنك تعمل قاضي بعدها، أو تطلع أستاذ، كنت عضو اتحاد طلاب بالكلية، فكان عندنا الحق في مصر بأن نعمل الاتحادات، وندخل الانتخابات، ونقود المظاهرات، وندخل في كل التيارات السياسية كسودانيين، كنا مثل المصريين، وكنت كابتن جامعة الأزهر كلها في الكرة، فكانت فترة مهمة جدا في حياتي، وعشت مرحلة تحول كبيرة بمصر في ثورة يوليو. * حدثنا عن هذه الفترة؟ – أول ما نزلت مصر سكنت في عمارة عبد الحميد عبد الحق باشا، وكانت في الجيزة بجوار سينما شهرزاد، وما زالت موجودة، وكلما مررت عليها في زياراتي للقاهرة أتذكر هذه الأيام، وسكنت بعدها في حي الأزهر، وفي أرض شريف قبل شارع عبد العزيز بجوار سينما الكرنك. * مقاطعة.. دائما تسكن جوار سينما؟ – لأني أحب السينما وكان هذا العصر الذهبي للسينما بمصر. * بعد الجامعة.. هل عدت للخرطوم؟ – بعدها انتسبت لمعهد الدراسات العربية العالية، وهو معهد مشهور عملته جامعة الدول العربية، وكنت في أول دفعة للمعهد، وكانوا يأخذون الأوائل في عدد محدود جدا من كل الدول العربية، فكنت أحد هؤلاء الطلاب، وكانت معنا دينا عبد الحميد ملكة الأردن. * هل عملت بمصر بعد التخرج؟ – زميلي اسمه عز الدين فودة صديقي، كان يعمل بالجامعة العربية، وطلب مني الحضور إليه بالجامعة، وعندما ذهبت قابلت توفيق البكري وهو من المناضلين السودانيين وقتها، وكان مؤثرا في إذاعة (ركن السودان)، وأنا داخل على عز الدين فودة، قال لي البكري انتظرني، وعندما خرجت من فودة، وجدت المراسلة قال لي إن البكري خرج انتظره، وعندما رجع عرض علي أن أعمل بالإذاعة، فقال نريد أن نطور (ركن السودان)، الذي كان موظفا للحركة السودانية في ذلك الوقت وللتيار الاتحادي، وأن الانتخابات جاية، وقائمة على تيار اتحادي وتيار استقلالي، ونحن ندعم التيار الاتحادي، فكنا نبث من القاهرة، والشعب السوداني كله كان يسمعنا، ولعبت إذاعة (ركن السودان) في أن يفوز الاتحادي بـ53 دائرة من 57. * هل وافقت على العمل بالإذاعة مباشرة بعد هذه الصدفة؟ * لم أكن أتوقع هذه الصدفة، ووافقت عليها مباشرة. * ذكرياتك مع أول لحظة مع مايكروفون الإذاعة؟ – لم تكن عندي رهبة المايكروفون، لأني كنت أخطب ومتعود عليها، وكان هناك ناس راعوني وربوني في هذا المجال، فأنا دخلت أنا والإعلامي المصري الكبير أحمد فراج، وقبلنا صلاح زكي وجلال معوض، وطاهر أبوزيد، وبعدها كنا أصدقاء، وكنا نأكل معا في أوقات الراحة معا، ولنا ذكريات كثيرة معا، والعلاقة معهم ظلت مستمرة، مع أحمد سعيد وغيره، فكانت فترة مهمة جدا في حياتي. * علي شمو محظوظ؟ – جدا، لدرجة أنه أنا حتى الليلة أجلس معهم ونتذكر هذه الأيام، هناك زغلول النجار وسعيد عمارة، وحمدي قنديل وريمون اسكندر، ونتحدث في تاريخ من يجلس معنا يتعجب من هذا الحديث، نحب بعض جدا، وعندما ذهبت للقاهرة لأعمل عملية القلب المفتوح وضع لي أحدهم شيكا بقيمة مبلغ العملية- (لا تذكري ذلك). * دعنا نذكره من هو؟ – هو سعيد عمارة، حتى وأنا مريض كان بيننا حديث عن موضوع العملية والقروش، ومن جلس معنا لم يكن يفهم ماذا يدور بيننا. * بعد الرجوع للسودان؟ – رجعت السودان وعملت في الإذاعة وتدرجت فيها، وكنت أذيع كل أحداث المناسبات المهمة، والأخبار والبرامج وغيرها، وكنت نائب رئيس قسم الأخبار، ثم مديرا للتلفزيون وأنشأته، ثم وكيل الوزارة، وبعدها ذهبت للخليج
اليوم التالي