عندما دخلت أمس إلى القاعة الصغرى في قاعة الشارقة جامعة الخرطوم.. ورأيت الحضور من العقول السودانية النيرة ملتفة حول طاولة كبيرة.. يتداولون الرأي بكل سلاسة ويسر في قضية مهمة للغاية.. لا صوت يرتفع.. ولا ألفاظ تتعثر في الهواء.. ولا (قومة نفس).. ثار في نفسي السؤال العجيب الملحاح.. لماذا لا يأتي الساسة إلى نفس هذه القاعة، ويطرحوا قضايا البلاد.. ليتداولوا حولها بنفس (النفس الهادئ)؛ ليصلوا إلى الخلاصات السهلة الممتنعة؟..
كانت جلسة علمية في قاعة الشارقة جامعة الخرطوم، نظَّمتها هيئة الأعمال الفكرية.. تناقش (التخطيط الحضري، وإشكالية العدالة الاجتماعية).. قدمها د. حسن إلياس، وناقشه فيها د. جمال محمود العميد السابق لكلية الهندسة المعمارية جامعة الخرطوم، ود. شرف الدين بانقا الوزير الأسبق للشؤون الهندسية ولاية الخرطوم.. وتجدون تفاصيل الندوة في خبر بالصفحة الأولى.
بكل صراحة.. الأزمة السودانية ينقصها التناول العلمي.. هي معجونة بكثير من (المكاواة)، والكلام غير المنتج، و(طق الحنك) الذي يجيده الساسة.. وينقصها التناول الهادئ العلمي المستنير.. تريدون الدليل؟؟.
ألم تلحظوا في حكاية (الحوار الوطني)، وفي كل جولات المفاوضات بين القوى الحزبية في الداخل والخارج.. أن الأمر كله- يدور- يبدأ وينتهي في ذات المستوى.. مستوى القيادة العليا..
ليس هناك مستوى (الخبراء)- دائماً- اجتماعات الساسة تبدأ بالقمة.. وتنتهي بها.. ولهذا تفشل إذا فشلت.. وتفشل- أيضاً- إذا نجحت في الوصول إلى اتفاق؛ لأن الاتفاق يكون فطيراً مطلياً بغشاوة سكرية حلوة المذاق لا تلبث أن تذوب في الفم من أول كلمة..
العمق الفكري.. وحصافة المعالجة، لا يتوفران في الساحة السياسية؛ لأنها لا تقوم على مفاهيم علمية.. الساسة يجلسون حول طاولات الحوار، يحيط بهم الغبن المرير، الذي يحفظونه لبعضهم.. ويغطيهم الطمع الكبير في المكاسب الشخصية، والحزبية الضيقة.
من الممكن (جداً) حل الأزمة السياسية في جلسة واحدة- فقط- في قاعة الشارقة (وفي القاعة الصغرى كمان).. فقط إذا توفر المنهج العلمي في التعامل مع مشكلاتنا.. أن يتولى الخبراء فك التفاصيل ومعالجتها بكل حصافة.. ثم تصميم (الخيارات) المتاحة؛ ليكون سهلاً على الساسة التقاط الحل المثالي بمنتهى اليسر والسلاسة.
وصدقوني عقولنا السودانية البصيرة قادرة على صناعة الحل الذي يرضي الشعب أولاً، ويلهم الضمير السوداني مستقبلاً يفيض بالخيرات، والنِعم.. لكن هذه العقول غير متاح لها أن تخوض في مشكلاتنا.. هي متروكة في (الرف) ترفرف بلا جناحين.. فيضيع كل منتوجها هباءً منثوراً..
لا يزال ممكناً أن تتصدى مؤسسة موقرة مثل جامعة الخرطوم.. بكل العقول (فرز أول) التي تكتنز فيها.. للأزمة السياسية السودانية.. وتعالجها بمنتهى الحكمة، ورجاحة العقل.. من خلال مؤتمر مائدة مستديرة ينظر إلى المستقبل، ويتغافل عن إحن الماضي المزمنة..
هل هذا مستحيل؟!!.