خالد حسن كسلا : «أعالي النيل» تشتاق إلى انفصال آخر

المعارض الجنوبي الكبير الموالي لابن قبيلته مشار البروفيسور ديفيد ديشان في حواره مع هذه الصحيفة المنشور يوم أمس، كان واضحاً جداً في شيء مهم جداً ولم يكن واضحاً في آخر كذلك مهم جداً.
كان واضحاً في أنهم في المعارضة الجنوبية المسلحة ذات الثقل النويري يعملون لفصل إقليم أعالي النيل الذي يضم فروع قبيلتهم النوير وإثنيات أخرى تحارب سلفا كير من دول جنوب السودان. وهي الدولة المنهارة الآن التي يعتمد رئيسها مستغلاً ما تبقى من موارد مالية لها على القوات اليوغندية لحماية وجوده في السلطة بعد أن ذهب نائبه السابق متمرداً بأكثر من نصف الجيش الشعبي لتحرير السودان.. والمعارض ديشان يقول إن سبعين في المائة من هذا الجيش الآن تحت توجيهات حركة مشار المعارضة.
ومعلوم أن الجيش الشعبي لم تلزم اتفاقية السلام الشامل «نيفاشا» قادته بأن يعيدوا صياغته بحيث يصبح جيشاً قومياً حال الانفصال أو يدمج في الجيش السوداني حال استمرار الواحدة.
وذلك ليكون جديراً بحماية مؤسسات الحكم وأمن واستقرار البلاد إذا وقع الانفصال الذي وقع. لكن للأسف فقد استمر بعد الانفصال بسلطة تتمتع بها قبيلة واحدة هي قبيلة سلفا كير في حين أن أغلبية جنوده من غير هذه القبيلة وأغلبهم من النوير قبيلة مشار وديشان نفسه. وكل هذا يعلمه بالطبع سلفا كير قبل أن يقيل نائبه مشار ليفجر بذلك الأوضاع الجنوبية هناك.. فهل يا ترى كان يراهن على استعداء قوات يوغندية لتملأ الفراغ العسكري المتوقع أن يحدثه تمرد مشار بأغلبية جنود الجيش الشعبي لتحرير السودان؟! لكن هل غفل عن أن هؤلاء الجنود الذين سيتبعون مشار سيزيد عددهم من بني عمومتهم، وقد يتضاعف لخوض حرب أخذت الشكل القبلي في بلد مثل جنوب السودان موبوء بالصراعات القبلية.
لكن هل كلام بروفيسور ديشان عن سعيهم كمعارضة لفصل إقليم أعالي النيل من جنوب السودان والرهان على نفطه لإقامة دولة أحدث فيه من باب التاكتيك؟! مثل هذا التاكتيك استخدمه من قبل متمردون جنوبيون مع حكومات الخرطوم المتعاقبة لكن القوى الأجنبية استفادت من إثارة الموضوع وحولته إلى فكرة تبلورت في أذهان الكثير من الجنوبيين.
الآن سيترك النوير وربما معهم الشلك الحديث عن وحدة جنوب السودان.. وسيتحدثون عن ضرورة فك إقليم أعالي النيل من جغرافيا الدولة ذات الأقاليم الثلاثة المعروفة. وهنا لن يصمت الإستوائيون طبعاً في إقليمهم الإستوائي وهم أصحاب سبق في فك أحد الأقاليم ـ وهو إقليمهم ـ من إدارة الإقليمين الآخرين.. وكان هذا معروفاً بعملية تقسيم الجنوب بمطالبة من الإستوائيين وعلى رأسهم جيمس طمبرة. والغريب حينما تم تقسيمه أيام نميري أصبح ثلاثة أقاليم وكانت الحاجة الاستفتائية أن يصبح إقليمين فقط ويستمر بحر الغزال وأعالي النيل إقليماً واحداً. لكن هل كان النوير في أعالي النيل وقتها يريدون تحريرهم إدارياً من «الدينكا» أسوة بالإستوئيين؟!
لكن الآن وبعد إقامة الدولة على أرض الأقاليم الثلاثة، فإن الإستوائيين صامتون ولم يكرروا ارتداء القمصان الـ«تي شيرت» المكتوب عليها «الإقليم الاستوائي الآن» التي كانت ضمن حملتهم في ثمانينات القر ن الماضي في استفتاء التقسيم.. لكن ها هو أحد مثقفي النوير البروفيسور ديشان يريد الانفصال بالحرب، ولم يكن مثل فرانسيس دينق«الشمالي ابن القبيلة الجنوبية».. ويتحدّث مثله عن «انفصال مؤقت ريثما تبنى أسس متينة لوحدة قابلة للاستدامة».
لقد اشعل «ديشان» سيرة الانفصال وبذلك يكون قد خصّب تربة الجنوب السياسية لمولود جديد بداخلها هو «دولة أعالي النيل».
وطبعاً هذا من شأنه أن يزيد من التمثيل الدبلوماسي الإسرائيلي في المنطقة.. وكان بعد انفصال جنوب السودان قلنا إن السودان من الناحية الجنوبية تقلص لصالحه عدد التمثيلات الإسرئيلية اليهودية وأصبح واحداً، فما عادت الدول الثلاث تلك جارات للسودان. وبانفصال أعالي النيل فسيرتفع عدد التمثيل الدبلوماسي اليهودي إلى اثنين في دولتين جارتين للسودان، على أي حال ربما تكون فكرة إطلاق مشروع انفصال أعالي النيل مدخلاً لتسوية الخلافات في الداخل، لكن علينا ألا ننسى نصيب القوى الأجنبية في ثمار مؤتمراتها داخل جنوب السودان.
وها هو ديشان يقول في حواره لـ«الإنتباهة» إن أمريكا وإسرائيل تستفيدان من استمرار الحرب ولذلك لن يفرطا في وجود سلفا كير في السلطة.
فهو إذن حليف لهما وإذا ترك أبناء النوير والشلك الفراغ العسكري الكبير في قوات سلفا كير، فإن يوغندا تبقى فاعل خير وشر.
أما ما لم يكن فيه ديشان واضحاً، فهو مصدر دعم المعارضة المسلحة.. فرفض الإجابة ليفتح الباب للتكهنات والظنون.. ولم يقل إن السبعين في المائة الذين انشقوا من الجيش الشعبي بيدهم أغلب السلاح الثقيل.
غداً نلتقي بإذن الله

Exit mobile version