زمان عندما كان (التعليم تعليم).. كنا ندرس في حصة الجغرافيا مادة تسمى (سبل كسب العيش).. دروس تتعلق بالطريقة التي يكسب بها الناس أرزاقهم في مختلف مناطق السودان..
وكان المفهوم العام لهذه المادة –وربما هذا هو سبب تضمينها في المنهج- هو أن المنظومة الاجتماعية تنبني حول (حركة المجتمع).. وأن حركة المجتمع تتبلور حول (كسب العيش)..
قبل يومين مررت بالسوق العربي بالخرطوم.. في زحام العابرين والمتسكعين والمتربصين تبدو صورة أخرى تشرح واقع الحال السوداني..
السوق العربي واحد من أشهر أسواق السودان.. إذ منه انطلق كثير من الذين أصبحوا فيما بعد أساطين الاقتصاد السوداني.. وعلى رأسهم المرحوم الشيخ مصطفى الأمين.. والمرحوم بشير النفيدي.. ويشارك السوق العربي في السمعة التاريخية رفيقه السوق الأفرنجي على مرمى حجر منه.. والاثنان الآن شاهدا عصر على الحال الذي وصلت إليه البلاد.. حال التراجع الذي يدركه كل من رأى السوق الأفرنجي في الستينيات والسبعينيات.. بأشهر المعارض التجارية ذات الجودة العالمية.. ثم يراه اليوم وقد تحول إلى طبالي وفراشين من بائعي السلع الهوامش.. انهيار (سبل كسب العيش)..
هذان السوقان.. (السوق العربي والأفرنجي) الآن هما مرآة حقيقية للاقتصاد السوداني.. البؤس الذي يطل في كل ركن فيهما.. الشقاء البادي على مرتاديهما.. كآبة المنظر.. كلها مؤشرات تدل على (فكرنا الاقتصادي).. الفكر الذي ينكمش مع الزمن.. بدلاً من أن يتطور.
حينما لا يتغير الحال لعقود طويلة في واحد من أهم المراكز التجارية في عاصمة بلادنا.. فذاك مؤشر على معدل (نمو فكرنا) الاقتصادي.. وإثبات لحالة الخمول بل الخمود الذي ندير به اقتصادنا..
الأسواق عموماً هي واحد من أكثر مؤشرات الرصد الحضري لتطور أي دولة.. ودونكم إمارة دبي التي تحولت إلى (مول) كبير.. يبرهن على السرعة التي نمت بها وتحولت إلى قلعة اقتصادية بمعايير دولية.. فالأسواق هي بؤرة النشاط التجاري (سبل كسب العيش) الذي يكشف بواطن الاقتصاد.
حسناً وقد يقول قائل وماهي علاقة الأسواق بتطور (الفكر!!) الاقتصادي.. والإجابة سهلة.. لأن أي فكر تنموي لا يستهدف مراكز الحراك التجاري العامة.. سيفشل في إثبات تأثيره على المجتمع. ومن هنا تأتي الكارثة التي تظهر في المسافة الشاسعة التي تفصل طبقة ممتصة لزبدة الاقتصاد.. وأخرى تدهسها عجلة الاقتصاد بلا رحمة..
المحك في إثبات حالنا الاقتصادي هو الأسواق.. مهما أشهرت الحكومة من أرقام في مجالات أخرى..