أهم سؤال صحفي ينبغي طرحه الآن على اللواء «م» خالد حسن عباس عضو مجلس قيادة ثورة «25» مايو 1969م هو ما الخطر الذي شعرت به حكومة مايو من موقف الشاعر الكبير الذي رحل يوم الجمعة الماضية محمد مفتاح رجب الفيتوري لدرجة أن تنزع منه الجنسية السودانية ولا تنزعها من قادة المعارضة الكبار وقتها الشريف حسين الهندي والصادق المهدي وعثمان خالد مضوي، وهم من قاد سياسياً عملية الجبهة الوطنية العسكرية ضد مايو؟!
طبعاً بعد أن مضى الفيتوري بلا جنسية سودانية تلقفته انتهازية فرعون ليبيا المخلوع المقتول معمّر القذافي، فمنحه النظام الليبي آنذاك جوازاً ليبياً وعينه دبلوماسياً في السفارة الليبية في إيطاليا، ثم سفيراً لليبيا في لبنان، ليفتح وجوده سفيراً في بيروت الطريق أمام زيارة الزعيم الطائفي «موسى الصدر» إلى طرابلس الغرب، لكنه وجدها أقل أمناً من طرابلس الشرق في لبنان رغم الحروب الطائفية الحادة وقتها في بلاده، وقد كان موسى الصدر ملهماً لحركة أمل الشيعية الموالية لإيران. فكان في طرابلس الغرب احتفال دعا له سفيرها في بيروت الفيتوري «الصدر» ضمن آخرين مدعوين من جهات أخرى بواسطة غيره.. لكن تطاول «الصدر» على فرعون ليبيا كانت نتيجته إخفاءه تماماً عن الأنظار.. وكان المناضل الفلسطيني الراحل صبري البنا أبو نضال بعد أن أنهى إقامته في ليبيا وغادر الى بغداد عام 2002م أيام صدام حسين وسنواته الأخيرة قد ذكر أن «موسى الصدر» كان في غرفة يقيم هو بالقرب منها، وبعد ساعات وجد فيها آثار دماء. طبعاً معروف أن القذافي الذي كان مرتجفاً باستمرار كان يصفّي خصومه بدم بارد وبخسة وجبن وغدر.
لكن في العام الماضي أعادت حكومة البشير الجنسية السودانية إلى ابن دارفور ابن الجنينة الخضراء السمراء الفيتوري.. وأكثر من ذلك فقد منحه اتحاد الصحافيين السودانيين بطاقة عضوية.. ومنزلاً ضمن إسكان الصحفيين.. فقد بدأ الفيتوري حياته العملية في مصر محرراً أدبياً.. ترى لماذا لم يكرّمه اتحاد الكتاب والأدباء السودانيين؟! هل لأنه لم يعد جسماً نقابياً واحداً؟! لقد أصبح أربعة أجسام، لكن الفيتوري كان يستحق التكريم منها الأربعة.. فلا أظنه محل خلاف بين جسمين منها.. فهو مفخرة سودانية. وهو حالة حقيقة ماثلة تقول إن السودان بشرقه وغربه وطن واحد مثل الرجل الواحد غير قابل لفصل جسده ليستمر حياً.
أما موقف حكومة مايو.. فهو يعزى للحالة العصبية التي أصابتها جراء انقلاب الشيوعيين الغادر.. فقد كان نميري ومأمون وخالد وأبو القاسم وزين العابدين يظنون أن أي معارض سياسياً كان أو كاتباً أدبياً يمكن أن يحرّض بعض ضباط الجيش كما فعل عبد الخالق، وكان الشاعر محجوب شريف منحازاً له بعد أن تراجع عن مدح نميري، وهو صاحب أقوى وأفضل مدح و «تطبيل» لنميري.. وأشعاره موثقة ومحفوظة في ذاكرات كثير من أبناء ذاك الجيل الذي يتأهب الآن للرحلة الصامتة إلى المقابر.. وقال الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم:
وإننا سوف تدركنا المنايا ٭٭ مقدرة لنا ومقدّرينا
لكن يبقى السؤال: لماذا لم تسحب حكومة مايو الجنسية من معارضين غير الفيتوري استخدموا السلاح في معارضتهم وليس القلم والنغم مثل الفيتوري ووردي؟! وعلى ذكر وردي.. هنا فإن قصيدة الفيتوري الشهيرة التي تغنى بها وردي.. قد أدخل فيها الأخير تعديلاً.. فهي تقول في أحد أبياتها «ما هنت يا إفريقيا يوماً علينا».. لكن وردي ردد بعد ذلك: «ما هنت يا سوداننا يوماً علينا». إن رحيل شاعر كبير ولامع ووجد الاهتمام مثل الفيتوري لا يكفي أن تتناول الناس سيرته بعد رحيله وأيام العزاء الحارة فيه في حدود الأدب فقط.. فلا بد من دراسة سيرته بكل محطاتها السياسية منذ أن كان يافعاً.. فهو من مواليد 24 نوفمبر 1936م، وقبل رفع علم الاستقلال في الأول من يناير 1956 كان في العشرين من عمره أي كان «رجلاً كبيراً» بحسابات ذاك الزمان ذي الهمم والفراسة. وقد رحل في «24» أبريل الجاري أي بين يومي «24».. وما هي مذكرات الفيتوري؟! هل كتبها؟! من يسأله أصهاره المغاربة؟!
غداً نلتقي بإذن الله.