قبل عدة سنوات أطلق وزير المالية- حينها- الأستاذ علي محمود تصريحاً نووياً أدى إلى ارتجاج وهزات متتابعة فترة من الزمن، الوزير طالب الشعب السوداني أن يرجع إلى (عواسة الكسرة).. وكان غالبية الساخرين من حديث الوزير يركّزون على أن (الكسرة) المحلية صارت أغلى من الخبز المستورد دقيقه.
اليوم “تلوت” بعض الصفوف أمام بعض المخابز.. الأمر لا أعتقد أنه تسبب في هزّة نفسية؛ لأن الحصول على الخبز لا يزال سهلاً رغم مثل هذه الأخبار.. لكن مجرد ظهور سيرة (الصفوف) مرة أخرى يستدعي ذكريات غير مجيدة عن عهود كان الحصول فيها على الخبز عملا يبدأ من عمق الليل وقبل الفجر، والمحظوظ من يجد بعد عدة ساعات من الصفوف ما يكفي وجبة واحدة.
لا أحد يتمنى عودة تلك الأيام بذلك العدم في كل السلع الاستهلاكية والوقود.. لكن التمني وحده لا يكفي.. فالواجب أن ننظر إلى قضية الخبز من منظور إستراتيجي أكثر ذكاء..
من الواضح أن فاتورة استيراد القمح باهظة للغاية.. وحسب معلوماتي فإن البلاد تستورد أكثر من مليوني طن سنوياً كلفتها تقترب من مليار دولار.. مدعومة من الخزينة العامة.. وهو دعم يذهب مباشرة ليس إلى المواطن السوداني، بل إلى المنتجين في الدولة التي تصدر لنا القمح..
هذا الدعم لو أعيد توجيهه إلى الداخل.. فهو يؤدي أكثر من هدف.. أولاً؛ يوفر العملة الصعبة، ثانياً؛ يدعم المزارع السوداني في كل المحاصيل بما يحقق للزراعة ميزة إضافية يجعلها واحدة من الاستثمارات الأكثر رواجاً وعائداً.. ثالثاً؛ يقلل من مخاطر الاعتماد على الغذاء من الخارج..
الشعب السوداني كان يعتمد على الذرة بشكل رئيس، لكن ما أن توفر القمح بسعر أقل، وارتفعت أسعار الذرة.. تحولت الثقافة الغذائية بصورة كبيرة في اتجاه يجعل القمح هو الأكثر استهلاكاً.. وبما إن المنتج المحلي منه لا يفي بالحاجة يصبح التعويل على الاستيراد هو النتيجة الحتمية.. والتي تهدر معها أموالاً ضخمة بالعملة الأجنبية..
لو قرر الشعب (وطبعاً لن يقرر لغياب الثقة)، لو قرر أن يخفض كل فرد استهلاكه من الخبز بمعدل (رغيفة واحدة) في اليوم، فإن ذلك يوفر حوالى مئة مليون دولار.. لكن- بكل أسف- مثل هذه النظرة الإستراتيجية تبدو مستحيلة؛ لأن الأمر ليس مجرد حالة (رجيم) جماعي.. فهناك مصالح متقاطعة تقاطع مثل هذه النظرة المستقبلية الإستراتيجية..
الأجدر أن ندرك أن القمح لم يعد مجرد غذاء.. فهو سلعة سياسية خطرة، لا يجدر التهوين من تداعياتها..