الانتخابات الأخيرة يجب أن تكون معلماً بارزاً ووثبة حقيقية نحو تحول عملي وعقلاني يواكب المستجدات والتغيرات المحلية والدولية.
أولاً: المستجدات المحلية إن هذه الانتخابات تمت بصورة متفردة تحت إعلان مقاطعتها من قبل كل المعارضة المدنية والمسلحة، إذ لم تحدث مقاطعة معلنة للانتخابات في السودان إلا مرة واحدة وكانت محدودة في مقاطعة حزب واحد هو حزب الشعب الديمقراطي، (الذي كان يمثل طائفة الختمية) بقيادة الشيخ الراحل علي عبد الرحمن عام 1965م .. المستجد الثاني هو الضعف الواضح في التصويت والذي يتوقع أن تكون نسبته حوالي 40% من العدد المسجل قياساً على انتخابات ماضية كانت النسب كالآتي:
أول انتخابات في السودان عام 1953 كانت نسبة المصوتين من المسجلين 53%- الانتخابات الثانية عام 1958م النسبة 69%، الانتخابات الثالثة 1965م كانت النسبة 54% الانتخابات الرابعة عام 1968م كانت النسبة 61%، الانتخابات الخامسة عام 1986م كانت النسبة 68% (المراجع من دار الوثائق المركزية وكتاب الانتخابات في السودان الذي أعده معهد الأخدود العظيم عام 2009م شارك في اعداد الكتاب د. جستن ويليز مؤرخ من جامعة ديرهام، د. عطا البطحاني أستاذ العلوم السياسية جامعة الخرطوم، وبروفيسور بيتر مودوارد أستاذ علوم سياسية جامعة ريدنق والكتاب تم بتمويل من مصلحة التنمية الدولية البريطانية)
(DFID-Department for international Development)
أي أن متوسط نسبة المصوتين الى المسجلين في الخمسة انتخابات تكون 61%، تدني نسبة التصويت يعود الى المقاطعة المعلنة من المعارضة عبر وسائط الإعلام المختلفة، ويعود أيضاً وبنسبة أكبر الى العزوف التلقائي الشخصي لأعداد كبيرة من المواطنين خاصة الشباب وهو عزوف عفوي تلقائي لجماهير عريضة تقدر بحوالي ثمانية ملايين أصيبت بالإحباط واليأس من أن النظام القائم لمدة ستة وعشرين عاماً لم يحقق لها طموحاتها في الأمن والأمان والعيش الكريم الميسور، وتوفر الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم بتكلفة في مقدورهم.. مناطق عريضة في السودان وكثافة سكانية عالية مثل دارفور، النيل الأزرق لم تصمت فيها أصوات البنادق والرصاص لسنوات طويلة متواصلة، أدت الى حالة نزوح غير مسبوقة أثرت بدرجة كبيرة في النسيج الاجتماعي واضافت أعباء هائلة على المدن الكبرى خاصة العاصمة القومية، حالة النازحين واللاجئين المزرية لفتت الأنظار في المجتمعات والحكومات الدولية والأمم المتحدة، وأصبحت هذه الحالة الانسانية المؤثرة كعب اخيل (نقطة الضعف التي يتم بها التدخل الدولي والذي بموجبه صدرت قرارات أممية خطيرة تحت الفصل السابع المؤدي في نهايته وفي المادة (42) منه الى التدخل الدولي العسكري، وفرض واقع غير مقبول في السودان.. المستجد الثالث ارتفاع نبرات دعاوى التهميش في الشرق ونقص الخدمات والتنمية وعدم المشاركة الفعالة في الحكم.. المستجد الرابع في المؤتمر الوطني بزيادة حالات التفلت وعدم الانصياع لقرارات المركز والإصرار على مواصلة الترشح كمستقلين خارجين من المؤتمر الوطني، وفوز بعضهم في دوائر تاريخية مهمة للمؤتمر الوطني وعلى رموز وقيادات بارزة في الحزب.. أخطر ما في هذه المستجدات الأربعة هو العزوف التلقائي لجماهير عريضة خاصة الشباب وخطورة هذا الأمر انه يتيح مناخاً لأي مغامر أو مغامرين لإحداث تغير مفاجئ بعد أن اطمأن على أن الشارع سيكون معه مرحباً بأي تغيير حتى لو كان تدخلاً عسكرياً خارجياً.. المستجد الخامس التدخل المرتب الموقوت للقوى الدولية الرسمية بصورة سافرة في الشأن السوداني الداخلي والمناصرة الصريحة والتحريض الواضح للمعارضة والشعب السوداني، وذلك تمثل في بيانات إدانة ورفض للانتخابات ووصفها بعدم الشرعية في تتالٍ زمني محسوب بدءاً ببيان الاتحاد الأوربي ثم الحكومة الكندية، وأخيراً الترويكا (انجلترا، أمريكا، والنرويج ).. هذا المستجد الخامس يعتبر كرتاً أصفر من المجتمع الدولي يسبق اشهار الكرت الأحمر والتدخل العسكري الدولي لدى أول بادرة انفلات أمني كبير في أية مدينة كبيرة خاصة العاصمة.. المستجد السادس هو القرار الصائب للرئيس في المشاركة في عملية عاصفة الحزم بقيادة السعودية ومصر هذه المشاركة سلاح ذو حدين- الحد الأول الايجابي هو إعادة العلاقات التاريخية الطبيعية مع السعودية ودول الخليج، وهذا يشكل بعداً اقتصادياً مهماً السودان في أمس الحاجة اليه، وإعادة العلاقات مع مصر يشكل بعداً أمنياً ضرورياً للسودان، لكن الحد الثاني قد يكون سالباً على ترابط وتماسك المؤتمر الوطني في تياره القوي المهم المتمثل في الحركة الاسلامية التي تحاربها السعودية ودول الخليج ومصر- خلق التوازن بين الحدين بالغ التعقيد والخطورة، وهذا سيؤدي بالضرورة الى اضطراب التوازن في قوة دفع سفينة الانقاذ طوال الخمسة وعشرين عاماً بين قوة الدفع السياسية الآيدلوجية وقوة الدفع الأمنية، وهذا الاضطراب سيقود الى الاعتماد على قوة الدفع الأمني على حساب السياسي.
المستجد السابع هو التحول الذكي الاستراتيجي في خطاب الحركة الشعبية قطاع الشمال وتحالفها مع الإمام الصادق المهدي وقبولها بطرحه الذي أسماه الهبوط الناعم، وهو بذلك يعني القبول بتسوية معقولة دون شروط مسبقة وعبر مفاوضات مع نظام الإنقاذ، وهذا الهبوط الناعم هو مخطط المجتمع الدولي في إيجاد تسوية عبر المفاوضات لا تفكك الإنقاذ ولكن تستوعب المعارضة في إدارة البلاد، وما يؤكد هذا المستجد السابع خطاب ياسر عرمان يوم 20/4/2015م والذي يؤكد فيه قبولهم بالحل السلمي والتسوية، وفي هذا التصريح تناقض وتراجع من الحركة الشعبية حول التسوية والجلوس مع الحكومة إذ قال قبيل الانتخابات إن قيامها يعني نهاية الحوار والمفاوضات تماماً والعودة الى مربع خيار الحرب وتوسيع دائرتها، وحديثه الأخير هذا كان بمناسبة انتهاء عملية الانتخابات والتي أشار اليها في مقدمة تصريحه، هذا الحديث أثار امتعاضاً ورفضاً من قوى المعارضة الأخرى والتي تحالف معها قطاع الشمال في نداء السودان وبدأت المعارضة تتوجس خيفة من تكرار سيناريو نيفاشا وحل مشكلة المنطقتين في صفقة ثنائية.
تزامن هذا التراجع من الحركة الشعبية مع تصريحات محسوبة من قيادات المؤتمر الوطني وحتى قبل الاعلان الرسمي لنتائج الانتخابات بمواصلة الحوار الوطني في رد ذكي وبليغ عن تخوفات وتحفظات المجتمع الدولي من أي تأثير سالب في مسار الحوار والتفاوض بسبب نجاح المؤتمر الوطني في قيام الانتخابات بعد كل التحديات وتجديد شرعيته الدستورية، إذن الطرفان المهمان أبديا رغبة صادقة في الوصول الى تسوية عادلة تحفظ في النهاية السودان ومواطنيه من أوزار الفوضى الخلاقة وتبعده من الانزلاق في مستنقع الموت والدمار الذي وقعت فيه ليبيا، اليمن وسوريا.
التسوية لن تتم بالأماني والخطب الرنانة والنوايا الحسنة ولن تتم بالجودية العشوائية.. التسوية شئنا أم أبينا سوف تتم عبر تفعيل القرار 2046 لمجلس الأمن تحت الفصل السابع الصادر في مايو 2012 هذا القرار فوّض الاتحاد الأفريقي في آليته العليا برئاسة امبيكي لتنفيذ القرار، ستبدأ الآلية حال اكتمال الاجتماعات التحضيرية في تنفيذ البند الثالث من القرار والذي يطالب الطرفين بالتوصل الى تسوية عبر المفاوضات بمرجعية الاتفاقية الاطارية.. الاتفاقية الاطارية في بنودها تدعو الى الحل الشامل لكل مشاكل السودان وتطالب المؤتمر الوطني وقطاع الشمال في الحركة الشعبية بالتوصل الى تفاهم وموقف مشترك تدخلان به التفاوض الشامل مع باقي قوى المعارضة المدنية والمسلحة في السودان.
مفتاح الحل والنجاح في كسر الحلقة المفرغة ومواصلة التفاوض حتى نهاياته بيد المؤتمر الوطني، وهو قبول التفاوض بمرجعية الاطارية، عليه وقبل الاصطدام بهذه العقبة الاطارية يجب على المؤتمر الوطني الجلوس مع مؤسساته لحسم قبول الاطارية ورفضها وإذا استقر الرأي على رفضها يجب التوقف وعدم الدخول في مفاوضات نتائجها الختامية محددة ومحسومة في بنود الاطارية لأن الآلية الافريقية طال أو قصر لا تستطيع الخروج عن القرار 2046 وهو ملزم لها.
عليه واستباقاً لأية مستجدات وتفويتا لأي مخططات تقضي على الأخضر واليابس يجب أن يكون حكم السودان بعد الانتخابات على النحو التالي:
أولاً: حسم مسألة الاطارية بقبولها وقبول الدخول مع قطاع الشمال في موقف مشترك في مواجهة قوى المعارضة الأخرى في الحوار الشامل.
ثانياً: إعلان رئاسي عاجل بإعادة هيكلة حكم السودان في ثمانية أقاليم كبرى فدرالية تتمتع بالتوزيع العادل للثروة والسلطة هي: دارفور، كردفان، جنوب كردفان، الشرق، النيل الأزرق، الشمالية، الأوسط والخرطوم وتعيين حكام عسكريين لهذه الأقاليم الثمانية في ظل إعلان حالة طوارئ لمدة سنتين حتى استتباب الأمن في كل الأقاليم، هذا التقسيم يحل جزءاً كبيراً من معضلة دارفور.
ثالثاً: تكوين حكومة برئاسة شخصية مقبولة مؤمنة بالحل السلمي وعضوية وزراء متخصصين غير حزبيين.
رابعاً: إعلان مواصلة السودان في تحالف عاصفة الحزم حتى بعد انتهاء العملية وتأكيد مواصلة العلاقة الطيبة مع السعودية ودول الخليج ومصر.
خامساً: تطبيع العلاقات مع المجتمع الغربي المتمثل في امريكا، انجلترا، الاتحاد الأوربي.
سادساً: تفعيل الاتفاقات مع دولة جنوب السودان واعادة الوحدة في شكل كنفدرالي.
سابعاً: التأكيد على قيام انتخابات حرة في أجواء كاملة من الحرية والعدالة والمساواة بعد أربع سنوات من التوصل الى الاتفاق الوطني الشامل.
والله الموفق.
عمر البكري أبو حراز
صحيفة آخر لحظة