تناولنا الأسبوع الماضي مسألة الهوية المصرية لحركة الإخوان المسلمين، وهو أمر لم يكن يحتاج لكثير تنويه لولا مزيج من التناسي ومساعي تجاوز نحو العالمية ظن البعض أنها نجحت. فكل حركة هي بنت بيئتها، وما كان لحركة الإخوان أن تنجح لولا أنها تبنت قضايا تهم الشعب المصري. وقد تأثرت كل حركة إحياء إسلامي بالبيئة التي نشأت فيها، وهو أمر لم يقتصر على الحركات المعاصرة، بل تأثرت به حركات ما قبل الحداثة كذلك. فالحركة الوهابية لا تزال نجدية الملامح، وحركة دانفوديو تشكلت افريقياً وكذلك الطريقة التجانية. أما الحركة السنوسية فقد استوطنت ليبياً، وكذلك فعلت الحركة المهدية التي أصبحت سودانية الهوى والهوية، رغم طبيعة دعوتها المبشرة بنهاية العالم وعالمية الرسالة.
وأذكر هنا معلومات كشفها لنا قيادي إخواني خليجي أثناء زيارة في منتصف الثمانينات لمجلة «آرابيا» عن توافق تم بين حركة الإخوان المسلمين المصرية والجماعة الإسلامية في باكستان بأن تمتنع كلا الحركتين من الدعوة والنشاط في مجال الأخرى. وعليه أصبحت شبه القارة الهندية حكرا على الجماعة ومحرمة على الإخوان، والعالم العربي. وقد جاءت أهمية هذه المعلومة من أن من كشفها هو من باشر بنفسه التفاوض حول هذا التفاهم أو الصفقة بين الطرفين. وقد قضيت وأستاذنا الراحل د. فتحي عثمان فترة طويلة ونحن نتناقش بعد ذهاب ضيفنا عن مغزى هذا التقاسم للنفوذ، وهو ما جعل حركة الإخوان عربية الهوية، مقابل الهوية الهندية للجماعة الإسلامية.
ليس هناك من بأس في تأثر كل حركة ببيئتها، فبعض التناغم من البيئة مطلوب، وأكثره لا مهرب منه. فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، وضرب الأمثال للعرب من أنفسهم ومن بيئتهم. ولكن الإسلام أيضاً رسالة عالمية لكل البشر، تقوم على حد أدنى من القيم الإنسانية المشتركة لا بد من الالتزام بها، ولا يمكن أن يكون التأقلم مع الواقع على حسابها. ومن ذلك أن القرآن نزل على العرب بلسانهم، وكان منهم جل السابقين الأولين من خيار الصحابة. ولكن القرآن والحديث أيضاً عظما النهي عن التفاخر بهوية عرقية أو قبلية، وتم التأكيد على أن الناس لآدم وآدم من تراب، وأن التفاضل هو بالتقوى لاغيرها، وأن الله وحده هو الذي يعلم المتقين. ولكن الثقافة العربية في صدر الإسلام، خاصة الشعر، حفلت بكثير من التفاخر والاستعلاء القبلي والعرقي، وقامت بعد الحركات القومية المعاصرة بإحياء ذلك التراث. ولم تنج الحركات الإسلامية المعاصرة من تشرب بعض مكونات هذه الجاهلية القديمة-الحديثة، بوعي أو دون وعي.
تداخل بعض الأحداث التي شكلت هذه الحركات وساهمت في صعودها كان له أثر في توجهاتها كذلك. على سبيل المثال، فإن انطلاقة حركة الإخوان المصرية، وصعودها من واحدة من عشرات الجمعيات الدينية التي كانت تموج بها الساحة المصرية في الثلاثينات إلى واحدة من أكبر الحركات السياسية والاجتماعية في مصر لم يتم بمعزل عن الصراع في فلسطين والمد المعادي للاستعمار الذي ساهمت الحركة في تغذيته ثم استثماره. فقد اكتسبت الحركة جماهيريتها في الثلاثينات من خطابها المؤيد للقضية الفلسطينية، ثم مشاركتها في حرب فسلطين فمعارك القناة. بنفس القدر، فإن صعود الحركة الإسلامية السودانية وتحولها من هامش السياسة السودانية إلى مركزها تأثر بالصراع في الجنوب، والمواجهة مع حركة علمانية يسارية التوجه تدعو لإعلاء الهوية الافريقية للسودان على حساب العربية. وأدى هذا بدوره إلى تقوية المركب العروبي في خطاب الإسلاميين السودانيين لدرجة تقارب الشوفينية، وساهم في خلق إشكالات لاحقة، مثل حروب دارفور.
وفي عام 1991، وبعد كارثة عاصفة الصحراء التي سبقت كارثة غزو العراق للكويت، نظم في السودان ما سمي بالمؤتمر العربي الإسلامي، وتداعت إليه حركات عربية يسارية وقومية، إضافة إلى الحركات الإسلامية، بما فيها تلك القادمة من خارج العالم العربي. ما يجمع بين هذه الحركات كان العداء للهيمنة الغربية والتعاطف مع العراق، حيث شاركت أحزاب البعث في العراق وسوريا، وعديد من المنظمات الفلسطينية. وقد غلب الخطاب العروبي على ذاك المؤتمر، حتى أن عديداً من أنصار المنظمات القادمة من خارج العالم العربي احتجت على الأمر، وطالبت بحذف «العربي» من عنوان المؤتمر والمنظمة المنبثقة عنه. وهذا يذكرنا بالمعين المشترك الذي ظلت هذه الحركات تغرف منه، بما فيها الحركات الماركسية، وهو معين محاربة الاستعمار والاعتزاز بالعروبة.
يظهر تأثر كثير من الحركات في البلدان الأخرى بتطورات العصر ومؤثرات المحيط في المثال الماليزي، حيث تتماهى الحركات «الإسلامية» مع مصالح العرقية الملاوية على حساب غيرها. كذلك نجد الحركة الإسلامية في باكستان انحازت لحكومات باكستانية علماينة ضد حركات بنغلاديش، كما تبنت القضية الكشميرية كقضية خلاف قومي بين الهند وباكستان، دون إبداء اهتمام مباشر بأكثر من مائتي مليون مسلم آخرين يعيشون في الهند. في إيران كذلك تبنى الخطاب «الإسلامي» بعض ملامح «القومية الفارسية»، وتماهى كذلك مصالح الدولة الإيرانية ومشاريعها. وبالمقابل، نجد الخطاب «الإسلامي» في العراق تبنى الخطاب الطائفي، وتماهى مع الطائفة ومصالحها. فأصبح الشيعي الماركسي أو العلماني أولى بالمعروف من «الإسلامي» السني، والعكس بالعكس عند «الإسلاميين» السنة. وقس على ذلك.
من كل هذا يتضح أن هناك حاجة إلى «أسلمة» الحركات الإسلامية. فقد أصيب الخطاب الإسلامي المعاصر بتلوث خطير، يكاد يكون مميتاً في بعض الأحيان، بخطاب طائفي أحياناً، وبخطاب استعلاء عرقي في أحيان أخرى. وفي كثير من النماذج، تتأثر المواقف «الإسلامية» بمصالح فئة بعينها (طبقة أو طائفة أو قبيلة أو عرق)، أو تقدم تنازلات هنا وهناك في المعترك السياسي لقوى مهيمنة (حكام أو قوى مؤثرة أخرى)، على حساب تعاليم الدين الواضحة أو قيمه المميزة. وهكذا يضطر القادة للسكوت عن المنكر والتخاذل عن المعروف، حتى لا يغضب هذا الحليف أو ذاك، أو لا تتأثر تلك المصلحة أو هذه.
وقد أسلفنا أنه ما من بأس من تأقلم الحركات مع واقعها. ونضيف هنا أنه ما من بأس بأن تقدم التنازلات السياسية من أجل المصلحة العامة. ولكن لهذا وذاك حدودا لا ينبغي تعديها ولا يجوز. فمن الممكن أن تتعاون الحركة مع حاكم أو حزب، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك التعاون في الإثم والعدوان، ولا حتى في السكوت عليه. فقد تعاونت حركات «إسلامية» سوريا مثلاً مع نظام صدام وهو يقتل شعبه ويروع جيرانه، وما تزال بعضها تحتفي به. وفعلت حركات «إسلامية» الشيء نفسه مع الأسد، وغيره من الحكام والفئات غير البعيدة من الإجرام.
ولكل هذه الحركات مبرراتها. على سبيل المثال، «الإسلاميون» الماليزيون كانوا يقولون إن كل الملاويين مسلمون، وبالتالي فإن مصلحتهم ومصلحة الإسلام واحدة. وهناك من يرى أن قضايا مثل فلسطين ومحاربة الاستعمار أولى من غيرها، وموالاة من يدعمها من الحكام، حتى لو كان ظالماً فاجراً، أو كافراً مشركاً، من المرجحات. وغني عن الذكر أن هذه مسائل فيها نظر، ولكن الأولى أن تتخلى الحركات الموسومة بأنها «إسلامية» عن هذه التسمية والزعم. وحسناً فعلت حركات مثل «النهضة» في تونس، والحرية والعدالة في مصر، والعدالة والتنمية في تركيا والمغرب، وغيرها، في اختيار إسلام تشير إلى محور تركيزها، دون أن تدعي مطابقة بينها وبين الإسلام. ومع هذا، ينبغي على هذه الحركات أن تطهر نفسها مما لابسها من شوفينية أو طبقية أو طائفية وغير ذلك من الموبقات وهوادم الدين.
أما من يريد أن يتسمى بالإسلام، فعليه أن يلتزم كل حدوده، فلا يسكت عن باطل، ولا يتوانى عن نصرة حق. وبغير ذلك يكون مرتكباً لجناية تشويه رسالة الإسلام، وكتمان الحق، والصد عن سبيل الله، حين ترتبط ممارسات «إسلامية» بكل ما هو منكر.