“إن زوجتي هي التي دفعت لي مهر الزواج وكان مقداره خمسين دولارا”، هذا ما قاله لي سائق التاكسي بسيريلانكا، ودار الحوار بيني وبينه حول مسألة المهر، فقال: نظام الزواج عندنا في الهندوسية أن المرأة هي التي تدفع مهر الزواج وتؤثث البيت، فابتسمت له عندما سمعت منه هذه المعلومة، وقلت: إذن أنت لا تتحمل أي تكاليف للزواج، فقال: نعم هذا صحيح، ولكن بعد الزواج يتحمل الزوج مصاريف المعيشة، فيصرف على زوجته أو يتشاركا في المصاريف الحياتية، قلت له: ولكن مهرك كان خمسين دولارا أليس هذا قليلا؟ قال: إن المهر يرتفع عندنا كلما ارتفعت مكانة الرجل في المجتمع أو ارتفع منصبه، فلو تقدم أستاذ جامعي لخطبة فتاة فإن الفتاة تدفع له مهرا بحدود عشرة آلاف دولار، فالمكانة الاجتماعية والمنصب هما ما يحدد قيمة المهر.
فرأيتها فرصة أتحدث معه عن نظامنا الاجتماعي، وكيف أن الرجل عندنا هو الذي يدفع المهر للفتاة، وأن الفتاة عندنا مدلّلة، فكل مصاريف الزواج سواء كانت قبله أو بعده يتحملها الرجل، فقال لي: وكم القيمة التي تدفعونها مهرا للفتاة؟ صمتّ فترة وفكرت قليلا وأنا متردد كم أقول له، وطاف في خيالي معاناة شبابنا في غلاء المهور، وعزوف الكثير منهم عن الزواج بسبب قيمة المهور الطاردة لهم، وكنت متحمسا في البداية أن أبين له جمال الإسلام في النظام الاجتماعي، فلو قلت له ما نعانيه لخشيت أن يصدم بواقعنا الاجتماعي، فجاءتني فكرة الاستعانة بشبكة التواصل الاجتماعي لأنقل له إجابات كثيرة، بدلا من أن أعطيه إجابة واحدة، فقلت له: هذا سؤال مهم.. ما رأيك أن نطرح هذا السؤال على المتابعين لنا في إنستغرام وتويتر ونرى ماذا يقولون؟! فابتسم وأعجب بالفكرة، فصورته وهو يقود سيارته ثم وضعت صورته بإنستغرام مع عرض الحوار الذي دار بيني وبينه، فانهالت الإجابات علي حتى تجاوزت الـ 250 إجابة خلال لحظات، وقد اخترت منها التالي:
(دكتور.. قل له أكثر من 100 ألف ريال.. ولكن تعرف لا تقل له أخاف يبطل يسلم)، (دكتور.. لا تعقدها قل له الإسلام لم يحدد مهرا)، (دكتور.. قل له 10 آلاف دينار)، (دكتور.. 70 ألف ريال إذا من نفس القبيلة)، (دكتور.. لا تقل له أخاف يغمى عليه وضيع الموضوع ومشِّ حالك)، (دكتور.. أنا مهري حفظ كتاب الله)، (دكتور.. قل له كل واحد حسب مقدرته)، (دكتور.. قل له إن الشباب هربوا من الزواج بسبب غلاء المهور)، وكتب شاب يقول (دكتور.. شوف لي وحدة سيلانية أتزوجها طالما هي تدفع المهر وتؤثث البيت)، وآخر قال (يختلف المهر باختلاف الفتاة، هل ثيب أم بكر؟ وهل هي كبيرة أم صغيرة؟ وهل هي زوجة أولى أم ثانية؟).
وبدأت أقرأ عليه التعليقات التي تصلني أولا فأولا وهو متفاعل مع الإجابات، فنضحك مرة ونعلق مرة، فقلت له: إن ديننا مرن والأصل أن الفتاة هي التي تحدد مهرها، كما حث ديننا على التقليل لزيادة البركة، فقال: ولكني لم أفهم من قال: إن المهر حفظ القرآن، فقلت له: دعني أسمعك بعض الآيات، وكان معي بالهاتف الجوال برنامج للشيخ المعيقلي، حفظه الله، ففتحت عليه وبدأ الشيخ يقرأ بصوته الشجي فأغلق السائق الشبابيك وصار يستمع بصمت عجيب، وأنا أراقبه بهدوء، ثم قال لي: هذا صوت جميل وهو يتكلم العربية أليس كذلك؟ قلت له: نعم، ثم بادرته بسؤال: هل سمعت شيئا عن الإسلام؟ فقال لي: أنا عمري 28 سنة، ولم يكلمني أحد عن الإسلام، فقلت له: وأنتم بسيريلانكا عددكم 22 مليون نسمة منهم 2 مليون مسلم، قال: صحيح، ولكن لا أعرف شيئا عن الإسلام، وأكملنا حديثنا عن أوضاعهم الاجتماعية، فلما وصلت إلى المطار دفعت له ما طلب وزدته قليلا، فلعل ما فعلناه معه يترك له أثرا طيبا.
وتعليقا على كثير من التعليقات التي شجعت التقليل في المهر، فإني أشجع ما قالوه، ولكن علينا أن نراعي الفرق بين الغني ومتوسط الحال، ومن يتأمل ما كان يدفعه رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام لزوجاته يعرف أنه كان يسعى لإغنائهن، فقد كان يدفع لهن بحدود (12 أوقية من الفضة) يعني بحدود 400 درهم، وهذا يساوي في زمانهم قيمة أربعين شاة، ومعنى ذلك أن المهر كان يساوي ثروة شخص غني؛ لأن زكاة الأغنام تجب على من يملك أربعين شاة، وفي كل أربعين شاة يتم الزكاة بواحدة، وطالما أن المهر الذي كان يدفعه النبي لزوجاته يعادل نصاب الزكاة، فمعنى ذلك أنه كان يُغنيهم، فالأصل في المهر أن يكون سبباً في غنى الزوجة، وامتلاك ثروة في بداية زواجها، وهو بمثابة رأسمال تنطلق منه في بناء ثروتها الاقتصادية، لأنها ستتفرغ بعد زواجها لإدارة البيت وتربية الأطفال..
فالحكمة من المهر تعويض المرأة عما فقدته من الانتقال من بيت أهلها لبيت زوجها، وكذلك هو رأسمال تستطيع المرأة من خلاله تنميته لتأمين ثروة لها، وهو دليل على جدية المتقدم للزواج، وأنه صادق في طلبه..