أصبح التعليم في بلادي مكلِّفاً للغاية، شأنه شأن كثير من الخدمات الضرورية التي يحتاج إليها المواطن بعد أن انسحبت الدولة من توفير كثير من مطلوباته، الأمر الذي زاد من أعداد المدارس الخاصة التي تكاثرت وملأت الأحياء والشوارع أو كادت، بل الأخطر من ذلك أن كثيراً من الفقراء والمساكين حتى في الخرطوم العاصمة، سحبوا أولادهم حتى من مرحلة الأساس مما أسهم في عودة نسبية للأمية في وقت تتباهى فيه الحكومة بالتوسع في التعليم العالي والجامعي، فإذا كنا قد أعلنَّا عن ثورة تعليمية منذ بواكير عهد الإنقاذ، فقد تمخض ذلك الجبل وذلك الحلم الكبير فولَّد تشوهات كبرى يصعب إحصاؤها ورصدها.
أرى رأي العين كثيراً من الآباء يلحقون صغارهم بورش الحدادة والسمكرة وإصلاح العربات ولو مررت بسوق حلة كوكو ستجد أطفالاً في عُمر العاشرة يقودون عربات الكارو لتحصيل رزق ضئيل يعينون به آباءهم، ولا أحتاج إلى أن أذكّر بالأطفال الذين ينتشرون في أكبر شوارع العاصمة ويبيعون لأصحاب العربات الليمون ومناديل الورق والمياه الغازية والعلك (اللبان) خلال العام الدراسي, أما المتسولون من الصغار وحاملو خرق القماش لتنظيف زجاج العربات في الإشارات الضوئية فحدِّث ولا حرج.
أحمد الله أني أشرف على أو أرأس عدداً من مجالس الآباء التي سمَّاها أبو التربية في السودان الأستاذ محمد الشيخ مدني بالمجالس التربوية بعد أن منحها دوراً كبيراً تسد به النقص الناتج عن تراجع إسهام الدولة في التعليم والتربية.. أقول إن ذلك مكَّنني من رصد كثير من علل التعليم العام والعالي وأهمها العبء المالي الضخم الذي يضطلع به الآباء والمجالس التربوية، وقد بات معلوماً أن المدارس تتفوق أو تتراجع وفقاً لدرجة إسهام مجالسها التربوية في دعمها والتصدي لمشكلاتها.
اليوم سأحكي لكم عن إحدى العلل التي تمسك بخناق التعليم العام والعالي وأكثر ما يفقع المرارة ويفري الكبد أن الجهة التي أحكي عنها اليوم تابعة لوزارة التربية والتعليم وبدلاً من أن تسند التعليم تقف في الطرف النقيض المعوق والقاتل للعملية التعليمية والتربوية.
إذا كنا قد قلنا إن موازنة التعليم ضعيفة للغاية مما جعل جميع المدارس والمؤسسات التعليمية تركض كالوحوش في سبيل إيجاد موارد تسد بها الرمق مما تجلى بصورة واضحة في ظاهرة القبول الخاص للجامعات والتي تتيح للأثرياء من الآباء سد عجز الأبناء عن تحقيق النتيجة المؤهلة لدخول الجامعة مما جعل المال يحقق ما عجزت عنه (الشطارة) وجعل الأثرياء يتسوَّرون محراب (الجميلة ومستحيلة) ويخرقون سترها ويهتكون عرضها وشرفها الأكاديمي فإن ذلك الواقع البائس انعكس على التعليم العام وتعليم الأساس وتحمل الآباء والمجالس التربوية كثيراً من العناء مع تفاوت بين مجلس ومجلس، وما من مدرسة لم تجد مجلساً تربوياً فاعلاً إلا وعانت ضعفاً في المستوى الأكاديمي وتردياً مريعاً في البيئة المدرسية.
مدرسة الحاج مصطفى عبد الرحمن سمَّاها أهل كوبر باسم الوالد رحمه الله بعد وفاته تقديراً لدوره في إنشائها من خلال استنفار جهد أهل المنطقة، وعندما توليت رئاسة مجلسها التربوي وتداولنا في شأن إيجاد مورد ثابت لها كما فعلنا في غيرها مستغلين موقعها الجغرافي المتميز في مواجهة مسجد النور.. ذهبنا إلى وزير التربية وقتها الأستاذ محمد أحمد حميدة وأقنعناه بأن نبني دكاكين نؤجرها لكي نسد بها حاجة المدرسة التي تحولت جزئياً إلى نموذجية ووافق على ذلك بإقرار مكتوب نحتفظ به حتى اليوم، وقمنا بتوقيع عقود مع بعض المستثمرين لبناء الدكاكين واستقطاع جزء من كلفة المباني ومنح المدرسة جزءاً من القيمة الإيجارية ريثما تؤول الدكاكين للمدرسة بصورة نهائية.
كل هذا تم بدون أي تدخل من إدارة العقارات المدرسية التي صمتت إلى أن تم بناء الدكاكين وبدأت المدرسة والمستثمرون في جني عائدها، وبمجرد أن تم إعفاء الوزير الأستاذ محمد أحمد حميدة جاءت تلك الإدارة تسعى معلنة رفضها لكل ما تم الاتفاق عليه مع الوزير السابق (حميدة) واجتمعت مباشرة مع أصحاب الدكاكين بعد أن حاسبت مديرة المدرسة ومن يومها صودرت منا الدكاكين وتكرمت علينا إدارة العقارات المدرسية بنسبة خمسة في المائة من قيمة إيجار تلك الدكاكين التي ما كنا سنبنيها لو كنا نعلم أن تلك الإدارة ستسطو عليها وتصادرها لمصلحتها، فهل بربكم من نهب مصلَّح أكبر من ذلك غير السطو الذي حدث على الإنتباهة؟!.
في زمان قديم كانت وزارة التربية تتولى إنشاء وتوفير حاجات المدارس, أما اليوم فإنها تصادر حتى مجهودات المجالس التربوية بسلطة اللوائح والقوانين الجائرة التي استُصدرت بفعل بعض مراكز قوى تمسك بخناق التعليم.
هل تعلم إدارة العقارات المدرسية أن المجلس التربوي لمدرسة الحاج مصطفى عبد الرحمن أنشأ ثلاثة فصول دراسية ومعمل حاسوب خلال العام الماضي، وهل تعلم أن المجلس التربوي يتحمل كلفة الكهرباء وبالسعر التجاري؟ هل تعلم أن المجلس التربوي يتحمل كلفة الإسناد الأكاديمي لفصول الصف الثالث الثانوي ويتحمل الحافز الشهري للمعلمين والمعلمات طوال العام؟ هل تعلم أنه يتحمل كلفة ثلاثة عمال للنظافة والحراسة وكلفة تصوير أوراق الامتحانات طوال العام، بعد أن تم شراء ماكينة تصوير؟ هذا جزء من مهام كثيرة لا يتسع المجال لإحصائها.
إننا نعلم أن وزير التربية د. عبد المحمود النور يبذل جهدًا كبيراً في تفكيك كثير من مراكز القوى التي تمسك بخناق التعليم، فهلا عجّل بحل هذه الإدارة؟ وهلا قام قبل ذلك بإنصافنا ممن سطوا على جهدنا؟!.