حكى لي المرحوم الدكتور يوسف البُر، طرفة قديمة حدثت في كلية الآداب بجامعة الخرطوم.. كان يتولى عمادة الكلية في ذلك الزمن الوريف البروفيسور عبدالله الطيب.. في اجتماع لمجلس الكلية أصر أحد الأساتذة الكرام على حسم موضوع بواسطة الاقتراع.. وكان واضحا من سير النقاش أن مقترح الأستاذ المعارض لم يجد هوى في نفوس الحضور.. المهم أصر الرجل على حسم الخلاف ديمقراطيا رغم نصائح البروفيسور.. حينما تم التصويت وجد الأستاذ الكريم نفسه يقف وحيدا وراء مقترحه.. هنا ابتسم البروفيسور عبدالله الطيب ونظر لخصمه قائلا بانجليزية فصيحة “يا لها من أقلية هزيلة”.
يوم الخميس الماضي أسدل الستار على الانتخابات السودانية.. نتائج الانتخابات لم تشهد سوى مفاجآت قليلة جداً.. من بين المفاجآت فوز مرشحين مستقلين في دائرتي أبو حمد ودنقلا.. ما عدا ذلك مضت المنافسة كما أراد لها الحزب الحاكم.. مثلا في عطبرة فازت الأستاذة إشراقة سيد محمود، مرشحة الاتحادي المسجل رغم وجود منافسين آخرين.. السبب أنها تمتعت بدعم من الحزب الحاكم .
في تقديري أن الأهم من كل ذلك كان الإقبال الضعيف على هذه الانتخابات.. وضع البروفيسور مختار الأصم سقفا للمشاركة حتى قبيل بداية الاقتراع حينما تنبأ في برنامج الواجهة الذي يقدمه الزميل الأستاذ أحمد البلال، بأن المشاركة ستكون نحو (٤٥٪).. بعيد انتهاء الاقتراع قدم الرئيس النيجيري الأسبق أبوسانجو رقما اقل للمشاركة أوجزها في نحو (٣٠٪).. بين هذه وتلك تبدو المشاركة في تخوم ثلث المسجلين في كشوفات الانتخابات .
هنالك أمر آخر لا يضعه كثير من المراقبين في الحسبان.. ماذا عن المواطنين الذين لم يسجلوا أسماءهم في السجل.. أغلب هؤلاء من الذين لا يثقون في العملية وإجمالا هم من المعارضين.. إذا جعلت لهذه الشريحة الغاضبة تقديرا متواضعا في حدود (١٠٪ ) تصبح الأغلبية الصامتة في حدود الثلثين.. هذه الأغلبية تستطيع أن تعدل الدستور في معظم الدول.
النظر من قرب إلى هذه الأغلبية الصامتة يولد أسئلة محيرة.. هل هذه الأغلبية تعتبر رصيدا للمعارضة التي قاطعت الانتخابات.. الاجتهاد يقول ليس الأمر كذلك.. لو كانت المعارضة التي ترفع شعار ارحل تملك كل ذلك الرصيد لم اكتفت ب(مس كول) انتخابي ورفعت من منازلهم شعار ارحل دون أن تفتح الأبواب أو تقبر أقدامها في الشوارع.
في تقديري أن الأغلبية الصامتة تحوي أعدادا مقدرة من مناصري الحزب الحاكم.. هذه الأعداد التي اختارت الفرجة محبطة من سياسات حزبها.. ثم في المقام الثاني لم تستشعر أن هنالك تنافسا حقيقيا فاختارت الجلوس على الأرض.. ولكن هذه الشريحة الواسعة من الممكن أن تحول ولاءها إذا وجدت خطابا سياسيا جديدا يلامس طموحاتها وأشواقها.. ومن الممكن أن ترتد لتأييد حزبها إذا حانت ساعة الجد.
بصراحة.. أي قراءة متعجلة للانتخابات ستكون مضللة.. إذا فرح الحزب الحاكم باكتساح الانتخابات ولم ينتبه للصامتين فسيرتكب خطأ سياسيا فادحا.. ذات التقدير الخاطيء سيقع على رؤوس المعارضة أن ظنت أن شعارها المقاطع أتى أكله.
بصراحة أكثر.. الأغلبية الصامتة تبحث عن برنامج جديد وطرح مواكب.. ولكن للأسف لا يوجد في الساحة ما يلبي رغبات هؤلاء الصامتين.. ومن هنا ربما تحدث الطامة الكبرى.