منى عبد الفتاح : من صنع عِجل داعش؟

تتولّد عن مقولة رئيس وزراء فرنسا السابق، دومينيك دو فيلبان، أوان هجمات باريس، باتهام الغرب، جملةً، بضلوعه في صناعة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أسئلة ملحّة. ولعلّ دوفيلبان، بتعاطفه مع العرب والمسلمين، قد أشار إلى الكل دون تخصيص، فيما جاء الدور على الولايات المتحدة ومفكريها ومراكز بحوثها لتتحمّل الجزء الأكبر من هذه المسؤولية.

يثبت التاريخ الحديث أنّ الإمبريالية تقدّمت، بفعل التوريط، أكثر ممّا تقدّمت بفعل التدخل، لأنّ التحليلات السياسية المبنية على الأحداث الحقيقية في منطقة الشرق الأوسط، وفي جزئها الذي تشغله داعش، بدأت منذ أكثر من خمسة عقود. وعندما جاءت الولايات المتحدة إلى العراق، بطلب من العرب، إبّان حرب الخليج الثانية، تبدّت الصورة عن توريط الأميركيين الذين كانوا على أهبة الاستعداد لتلبية التدخل في المسائل العربية، أكثر ممّا هي مبادرة مستقلة من جانبهم.

منذ نهاية الخمسينيات، كان الإطار العام هو تداعيات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، والتي تفجّر فيها الصراع بين التيارين، البعثي والشيوعي، في العراق. لم يصمد عقد الخمسينيات الذي تم فيه التوافق على اتفاق التعايش السلمي بين النظامين، الاشتراكي والرأسمالي، تنفيذاً لرغبة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة ونفوذهما، فقد وافق ذلك العقد، وما تلاه، تفاقم نفوذ أميركا في العمل على إسقاط أنظمة الحكم غير كاملة الولاء لها، في العالم الثالث، ومنها العراق.

وفي الستينيات، تفاقم الصراع بين البعثيين والناصريين، وبين الشيوعيين والناصريين. فانشق كل تيار ليولّد مجموعات صغيرة، تنضم إلى التيار المقابل، لكن أكثرها صيتاً كان التحالف الذي ضمّ المجموعات الصغيرة المنشقة من كل حزب للقيادة المركزية للحزب الشيوعي، والتي كوّنت ما عُرفت باسم “جبهة الكفاح الشعبي المسلح” المشهود له بالجاذبية والتأثير على شريحة كبيرة من الطلاب المتحمسين. ولم تستطع جماهير هذا الحلف التي كانت تتأجج حماساً الوصول إلى السلطة، بسبب مجزرة 8 فبراير/ شباط 1963، والانقلاب على رئيس الوزراء العميد عبد الكريم قاسم وإعدامه في اليوم نفسه.

وبالعودة إلى تلك الفترة، يظهر التحليل الذي يبدو أقرب إلى تفسير وجود تنظيم داعش المنبعث من رماد صراع الستينيات، الذي أسّس لوجود التنظيم، وكان صراعاً سياسياً منذ قيام الحرب الباردة، وخضوع المنطقة، كمسرح للعبة السياسة الدولية التي كانت فيها هذه التيارات تُدار وتُحرّك، وفقاً لرغبات القوى الدولية. وبينما كان قاسم يرنو إلى الاتحاد السوفييتي، معتنقاً التجربة الاشتراكية التي تم تتويجها بمعاهدة الدفاع الاستراتيجي، كانت الولايات المتحدة تدعم تيارات أخرى، لأنّ توجهه كان يتعارض مع سيطرتها المتزايدة في تلك الفترة على الوطن العربي.

ويمكن، من خلال ذلك، رؤية كيف تكشف قوة التنظيم عن جذوره القوية في التربتين، العراقية والسورية، ما مهّد له الصراع الأيديولوجي المتنامي منذ تلك الفترة. فقد فرض عبد الكريم قاسم هيمنة الحزب الشيوعي، مدعوماً بالعسكر، وتوالى تصاعد التيار الرافض تطبيق الأحكام الإسلامية، وهو ما كان ضد رغبة المرجعيات الدينية، كما أبعد العراق عن الاتحاد العربي، أو “الجمهورية العربية المتحدة”، حتى وصل إلى إلغاء عضوية العراق من جامعة الدول العربية، وطلبه ضمّ الكويت إلى العراق عام 1961.

ألا يشبه ما تقوم به داعش، اليوم، ما حدث من وقائع مؤلمة، تم تصويرها في فيلم “قطار السلام” عن استباحة الموصل وكركوك في يوم 9 فبراير 1963، من مؤيدي الحكومة الذين اقتحموا المنازل، وعبثوا بالمحرّمات، ونفّذوا الإعدامات في الشارع العام؟ ألا توحي مسيرة صدام حسين ممثلاً لحزب البعث، في أوج قوته إبّان الانقلاب الذي قام به الحزب في 17 يوليو/ تموز 1968، وتبنيه الأفكار القومية العربية والاشتراكية، حتى استلامه الحكم عام 1979 إلى حربه مع إيران، في ثمانينيات القرن الماضي، ثم غزوه الكويت وحرب الخليج الثانية عام 1991، ثم احتلال القوات الأميركية العراق عام 2003، وحتى إعدامه في 2006، ألا يوحي هذا المسار بتفسير عن وجود داعش؟
“تفاقم نفوذ أميركا في العمل على إسقاط أنظمة الحكم غير كاملة الولاء لها، في العالم الثالث، ومنها العراق”

أليس كل هذا الصخب، والأخطر منه قرار الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث بقانون صادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة، برئاسة الحاكم الأميركي بول بريمر، بتاريخ 16 أبريل/ نيسان 2003، “وإزالة قيادته في مواقع السلطة”، وتجريد كل من ينتمي للحزب من وظيفته الحكومية، خلّف أرتالاً من البشر المغبونين؟

بذلك القانون الذي جاء لصالح الأحزاب الشيعية، كانت أميركا قد وضعت يدها في يد إيران، لظروف المرحلة التي شهدت تنسيقاً عالياً بينهما. ثم أوغر في صدور أعضاء الحزب الذين يمثلون شريحة عريضة من الشعب العراقي. قد لا يكون هناك وقت للإجابات الشافية في ظل تسارع أفعال داعش. ولكن، تظل الأسئلة تترى.

ما يحدث الآن كان يدور في أضابير السياسة العراقية، صراعٌ قديمٌ متجدّد بين الانتماءات الطائفية: سنة وشيعة، والحزبية الأيديولوجية: البعث والناصرية والشيوعية. كلّ ترى في توجهها الحق، ولكلّ مهديها المنتظر.

Exit mobile version