زمان –مش بعيد أوي- كانت في السودان ظاهرة عجيبة.. اندثرت الآن.. كان عندما تشرع الحكومة في أي عمل ميداني (قومي) على مستوى السودان.. مثل الانتخابات.. أو الاستفتاء أو الإحصاء السكاني.. كانت الحكومة تعتمد على (المدرسين).. في المدارس بدرجاتها الثلاث.. الابتدائي والمتوسط والثانوي..
ولكن مفهوماً لدى المجتمع السوداني أن (المدرس) ليس مجرد (حامل طباشيرة) في الفصل.. دوره يتعدى المدرسة إلى المجتمع كله.. فهو الراعي الرسمي للتوعية في القرية أو الحي.. وهو الذي يستعان به في الملمات التي تتطلب الرشد وتحريك العقل والدراية والحكمة..
ولكم يكن هذا المدرس مستورداً من الخارج.. هم من نفس جيناتنا ويعيشون بيننا، لكنهم بحكم تربيتهم وتكوينهم النفسي ووضعهم الاجتماعي صاروا مدركين لمسؤوليتهم (القومية)..
بالله انظروا معي الآن لهذه الصورة المحيرة العجيبة..!!
دعكم من المدرسين.. فهم بالكاد يحصلون على رواتبهم آخر الشهر.. وإن حصلوا عليها فإنها قوت يومين أو ثلاثة وعليهم الجري خلف المعايش بقية الشهر في كل المسارب.. دروس خصوصية أو غيرها..
أتركوا كل هذا وانظروا فوق.. في سنام التعليم العالي.. في المؤسسات السامقة التي نطلق عليها (جامعات) ولدينا منها الكثير المثير الخطر.. ومنها ماهو معروف وراسخ عالمياً.. إذا كان مدرس المرحلة الابتدائية –زمان- يلعب هذا الدور القومي الفاعل.. فماذا تقدم الجامعات –بعيداً عن الطباشيرة- لمجتمعنا السوداني..
مناسبة هذا الاستدراك التاريخي.. أن بلادنا الآن تعيش حالة مخاض متعسرة في محاولة للوصول إلى مرحلة (توافق وطني) يضع عنها أوزارها ويرفع عنها غبن الزمان لتنطلق إلى فضاء وعهد جديد.. فماهو دور الجامعات بكل ما فيها من علماء وعلوم ومحط الآمال والعشم الوطني.. ماذا تقدم الجامعات لحل معضلاتنا الوطنية.
لماذا يبكي أساتذة الجامعات على حالهم وضعف رواتبهم وشظف عيشهم إن كانوا هم لا يقدرون على أن يساهموا ولو بشق تمرة في تقديم (الحلول) لبلد موغل في التعقيدات التي تحتاج إلى (عقول) وعلم وعلماء للتعامل معها.
قبل أسابيع تنافست بعض الجامعات السودانية في تمجيد الرتب التي حصلت عليها في التصنيف العالمي لمواقع الانترنت.. فماهو تصنيف (مساهمة) الجامعات السودانية في إسهامها في معالجة الهموم الوطنية السودانية؟ أم أن هذا ليس مؤشراً على (حالة!) الجامعة وليس له علاقة برسالتها تجاه مجتمعها الذي يدفع من حُر مال فقره المدقع لتمويلها.
نحن في حاجة ماسة – خاصة بعد الانتخابات- لتنافس الجامعات السودانية في التفاعل مع همومنا الوطنية.. منافسة في تقديم الحلول واستنباط آفاق جديدة..
إن لم يكن لجامعاتنا همة لأداء مثل هذا الدور.. فالأجدر أن يقبلوا بالفتات الذي يقدم لهم.. عملاً بالمثل السوداني الشعبي (القلم.. ما بزيل البلم).
يا جامعاتنا السودانية.. (صح النوم!)..