في وقت تتراص خلاله الصفوف أمام مراكز الاقتراع صباح اليوم، وتغطي حالة التدافع أرجاء البلاد، يجلس الشيخ حسن الترابي هناك في ضاحية المنشية بالخرطوم وملؤه الترقب. زعيم حزب المؤتمر الشعبي ربما لا يستوقفه ما يجري حوله في الخارج من ضجيج في مراكز الانتخابات. ربما لا يعنيه حتى أن يعرف من هم المترشحون، ولا تحركه أو تثيره عبارة الانتخابات، بقدر ما تسيطر عليه فكرة (الحوار) الذي أعلنته الحكومة ومضى عليه عام وأربعة أشهر.
وحينما كان النظام يقول إن الانتخابات أولاً، بدا وكأنه من وجهة نظر الكثيرين ينعي بتلك الخطوة (الحوار) الذي يدافع عنه الترابي أكثر من القيادات الحكومية المتمسكة به. فالرجل ظل يوماً بعد يوم يتمسك بموقفه وينافح عنه رغم العقبات الكؤود التي اعترضت مسار العملية، وخروج بعض الأحزاب المؤمنة بالفكرة، بجانب مقاطعة أبرز أحزاب المعارضة.
وفي أعقاب مقاطعة الحوار استمرت الحكومة في موقفها المعلن بإجراء الانتخابات في موعدها المضروب، ما حمل الأحزاب جميعها بما فيها المؤتمر الشعبي المتبني للحوار لإعلان مقاطعة الاستحقاق الذي ينطلق اليوم في كافة أنحاء البلاد بمستوياتها الرئاسية والتشريعية والبرلمانية القومية والولائية.
وساق المقاطعون للانتخابات حزمة مبررات لمواقفهم، أهمها اشتعال الحرب في 7 ولايات وانحياز مؤسسات الدولة والتشكيك في الإحصاء السكاني وغياب التوافق الوطني والحريات العامة. وفي ظل إحجام الكبار غابت المنافسة وتسيدت صفقات التنازل بين اللاعب الأكبر “المؤتمر الوطني” ومنافسين يتكففون الدوائر.
وبعد حالة من الصمت تزامنت و(الصمت الانتخابي) للمرشحين خرج الترابي بعد أن تراخت وتيرة تحركات الحوار، وبدا كأن الرجل لم يستيئس وبث حالة من الأمل في الفكرة التي يتمسك بها، حين قال في تصريح للزميلة صحيفة (الرأي العام) إنه لا يستبعد نجاح الحوار بعد إجراء الانتخابات وكشف عن أنه ما زال لديه أمل في نجاح العملية والتحاق الحركات المسلحة بمسيرة الحوار.
الترابي المشهور بكثرة تبنيه للأفكار الجدلية ومناقشة الغيبيات في كثير من القضايا الدينية والفقهية، كان متحفظاً في الحديث عن غيبيات السياسة وعما إذا كانت هنالك فرصة لإنجاح الحوار، وقال إنه لا يعلم الغيب ولا يستطيع أن يجزم بذلك ولكنه يعمل في هذه الدنيا برجاء أن ينفتح الحوار ويأتي إليه الذين يقاتلون في الخارج ليشاركوا في الحوار حول القضايا التي قال إنها لن تأخذ وقتاً.
ومع ابتسامة عريضة ما انفكت تفارقه، يعود الترابي إلى الساحة السياسية بتصريحات أقل ما يمكن أن توصف به أنها أربكت حالة المشهد السياسي؛ موقف يتبناه خصوم الرجل السياسيون من الأحزاب الأخرى الرافضة للحوار بزعم أنه يسعى للتقارب مع الحزب الحاكم، وموقف آخر ربما يتشكل عند الجانب الحكومي المتبني للحوار.
ولتلافي ازمة الاحتقان الناجمة عن الانتخابات تقدم الترابي بطلب في وقت سابق خلال لقاءاته مع رئيس الجمهورية وعدد من قيادات الدولة بإرجاء الانتخابات لمدة عام حتى تتاح الفرصة لكل الأحزاب للعمل والتنافس المتساوي. الرجل بدأ يرسل خيوط الآمال وإشارات لأن يفضي حوار ما بعد الانتخابات إلى نجاحات بعد فشل الحوار في نسخته ما قبل الانتخابات، وقال إنه يأمل في أن يأتي الرئيس في دورته الجديدة بصورة منفتحة للحوار، ولم تثبط همة الشيخ ولم يفتر عزمه رغم النتائج غير الملموسة للحوار على أرض الواقع وكثير من العقبات التي اعترضت طريقه حتى نعته البعض بأنه قد مات ولا جدوى منه وأن الحكومة أرادت به استثمار الوقت إلى حين موعد الانتخابات.
والترابي الذي ينظر للحوار بعين الأمل ربما تشكل له تأكيدات الرئيس فسحة أمل أخرى، فقد أكد رئيس الجمهورية اكتمال الإجراءات لانطلاقة الحوار بعد الفراغ من إجراء الانتخابات.
حسناً، بالعودة إلى الوراء، تخنزن الذاكرة الموقف المعلن لحزب المؤتمر الشعبي إبان فترة انتخابات العام 2010، وكان حينها حزب الترابي هو الحزب الوحيد دوناً عن بقية الأحزاب المعارضة، قرر خوض الانتخابات، ما أغضب تجمع أحزاب المعارضة الذي عرف بـ(تجمع أحزاب مؤتمر جوبا)، قرر الترابي وقتها خوض الانتخابات، ودخل التنافس الانتخابي بمرشح رئاسي جنوبي هو عبد الله دينق نيال، إلى أن جاء في نهاية المطاف وطعن في العملية الانتخابية برمتها ونزاهتها وما شابها من عمليات تزوير واختلال واعتلال بينها الحزب وقتها في بيان للأمين العام للمؤتمر الشعبي، الصورة اليوم بالقرب من صناديق الاقتراع المقاطعة من الأحزاب الكبيرة وفي مقدمتها حزب الترابي، تبدو مختلفة بحسابات المؤتمر الشعبي أو بمعنى أدق بحسابات زعيمه حسن الترابي، فالحزب هذه المرة قرر عدم خوض الانتخابات وبلغ الأمر في رفض حزب الترابي للانتخابات أن هدد بفصل أي عضو منه يحاول الترشح في أي من الدوائر كمرشح مستقل، الترابي المصمم هو وقواعد حزبه على عدم الاقتراب من صناديق الاقتراع في انتخابات 2015، لا زال يتمسك بورقة (الحوار) ورقة يستمسك معها بعدم منازلة مرشحي الحزب الحاكم في الانتخابات والاحتفاظ بها إلى ما بعد الانتخابات، ومد حبال الصبر والأمل حيال الحوار لتحقيق مكاسب يرجوها بحسابات السياسة تخرج البلاد من الأزمات، وصمد حزب الترابي على رفضه لإجراء الانتخابات في أبريل، رغم تمسكه اللافت بمبادرة الحوار الوطني، على الرغم من انسحاب كل رفقائه، وهو ما جعل العملية أشبه بحوار لإعادة توحيد الإسلاميين من جديد في نظر كثير من أعداء الحوار، وأعلن كمال عمر الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي، في أكتوبر الماضي، أن الحزب سيقاطع الانتخابات المقرر إجراؤها في أبريل، موضحاً أن: “غياب الديمقراطية لن يسمح بإجراء انتخابات نزيهة، وهو ما يقلل مصداقية العملية الانتخابية”، وقال عمر يومها: “إجراء انتخابات في إطار هذه الأحوال هو كارثة”، مشيراً إلى أن حزبه شارك في حوار وطني دعا إليه الرئيس البشير، لكنه لم يثمر عن أي اتفاق جديد في الآراء، وأضاف أن: “إجراء انتخابات من دون توافق وطني يجعل الحوار عبثياً”.
الترابي الذي كان يمني نفسه بأن تفضي نتائج الحوار الوطني لتأجيل الانتخابات لمدة عام آخر، حتى يؤذن لكل الأحزاب التي بلغت (90) حزباً، أن تنتشر في البلاد لتعرض نفسها للشعب، لم يفقد الأمل في الحوار وبات عنده كل شيء وارداً بحسابات السياسة حتى مع العقبات أن يحقق الحوار النجاح بعد الانتخابات ون يأتي الرئيس في دورته الجديدة للحوار بصورة منفتحة.
اليوم التالي