عندما ذهب الصحافيون إليها في منزلها الذي عاشت فيه لثلاثين سنة في (ويست هامبستيد)، وطلبوا منها التعليق على فوزها بجائزة نوبل للأدب قالت وهي تتجاهل الأسئلة: “لا يمكنني الاهتمام كثيراً.. لقد حصلت على كل الجوائز في أوروبا، كل جائزة لعينة”. ثم أردفت: “من هؤلاء الناس الذين يمنحون الجائزة؟ إنهم مجموعة من السويديين الملعونين”. إنها الروائية البريطانية (دوريس ليسينج) التي حازت على نوبل في العام 2007، وتعتبر الأكثر إنتاجا إذ ألفت أكثر من خمسين رواية.
رحلت (ليسينج) عن دنيانا في العام 2013م، تاركة آثاراً فكرية وروحانية بالغة الأهمية، حكايات كذيول الطواوييس زاهية ورشيقة و(منفوشة)، لغة كقلب طفل، وعقلا حادا وقاطعا كمدية مثقفة.
أمرأة أدانت الحرب، مهما كانت مبرراتها، وأدانت القتل المجاني وغير المجاني، فربما استهلمت أفكارها الرائعة من كون أمها كانت ممرضة أثناء الحرب العالمية الأولى، بينما كان أبوها جندياً.
تقول عن أمها: “كان قلبها دافئا ولكنها لم تكن حساسة. إن تمريض المجروحين كان أشبه بالجحيم. فبعضهم يموت فعلياً. المحتم أن هذا مزقها”. فيما تقول عن والدها: “كان أبي يتحدث عن الرجال الذين عرفهم وماتوا في معركة (باشنديل) حتى اليوم الذي مات فيه. مات في سن الثانية والستين. كان من المفترض أن يكتب في شهادة وفاته أن سبب موته هو الحرب العظمى”.
لست بصدد تنظيم احتفالية خاصة لتأبين هذه السيدة العظيمة، ولكنني هنا لأستهلم منها وأدعو الجميع إلى مساندتي في مسعاي هذا، لتنظيم حملة شعبية لوقف الحرب العبثية الدائرة في هذه البلاد منذ العام (1955م)، حرب لا معنى لها، ولا مبرر لاستمرارها، لذا ليس علينا أن (نلعنها) ثم نكتفي بأن نُعلنها داوية كما يقولون، بل أن نمارس ضغطاً كبيراً على أطرافها، لأننا لسنا مستفيدين منها، كلنا خاسرون.
تقول ( ليسينج): “حسناً، لقد ولدت عقب الحرب العالمية الأولى. وغضب أبي من الخنادق سيطر عليّ عندما كنت صغيرة ولم يتركني أبدا. وكأن الحرب القديمة كانت في ذاكرتي وضميري. أعطتني إحساسا رهيباً بالنذير، اعتقادا بأن الأشياء لا يمكن أن تكون عادية ومنظمة، إنها ملعونة دوما. جثمت الحرب العظمي على طفولتي”.
جثمت الحرب على حياة السودانيين، وطبعت سلوكهم، السودانيون كلهم، إلا أن القاطنين في مناطق النزاعات هم المتضررون الحقيقيون، لكن السوداني أينما قطن تلاحقه الحرب بشكل أو بآخر. شخصياً حارب أبي في الجنوب منذ 1955 إلى مطلع الستينيات. إذاً، وصلت الحرب بيتنا، كما وصلت كل البيوت السودانية بشكل مباشر أو غير مباشر.
لذلك سنبدأ منذ الآن، وبرفقة المعلمة الكبيرة (ليسينج) حملتنا للضغط على كل الأطراف لوقف الحرب، وسنكشف عن تجارها ومؤججيها ونسقطهم واحداً تلو الآخر، ونفضح قبحهم. فمن يريد أن ينضم إلينا فليرفع إصبعه بصمت فهنا ممنوع الهتاف والصراخ.