التاجر والعسكر .. حكاية مواطن

“أشد مراتب الاستبداد التي يُتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز علي سلطة دينية” .. عبد الرحمن الكواكبي!
لو كان الإستبداد رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر، أبي الظلم، أمي الإساءة، أخي الغدر، أختي المسكنة، عمي الضرر، خالي الذل ، ابني الفقر، بنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب .. أما ديني وشرفي فهو المال .. المال .. المال .. هكذا اختزل الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد دور الجشع للمال في شيوع الاستبداد ..!
متكئين على إضاءات الكواكبي وبالقدر اللازم من الحياد والعدل في القياس أرجو أن يرافقنا القارئ الكريم – حاكماً كان أم محكوماً – في سرد تفاصيل حكاية مواطن سوداني لم يسعفه حكم القضاء السوداني العادل – بجميع مراحله من المحكمة الابتدائية إلى محكمة الاستئناف إلى المحكمة العليا – في تنفيذ حكم يقضي برفع الظلم عنه، فقط لأن الطرف الآخر يمثِّل سلطة عسكرية ..!
بداية الحكاية (التي نشرت بعض الصحف جانباً من فصولها الأولى) تقول إن مواطناً سودانياً أراد أن يستثمر حصاد غربته في رزق حلال يدر عليه – وبالتالي على خزينة مالنا العام – أموالاً (يبدو أنها كانت مثار حسد بعض النافذين)، فكان مشروع شاشات العرض والإعلان، والذي بدأ باستئجار مكان في موقع متميز بالخرطوم بحري .. فمالذي حدث ..؟!
سأل المواطن عن مالك المكان فقيل له إنه يتبع لسلاح المظلات، فقابل المسئولين هناك وتم التعاقد على (ست سنوات) ودفع لهم مقابل استئجار حولين كاملين ولم يعترض على ذلك أحد، وفي منتصف السنة الثانية، تم تعليق الشاشة الضخمة وتدشين المشروع، وعندها فقط – وكالمعتاد – جاءت المحلية تجرجر أذيالها ..!
قالت المحلية – غفر الله لها – إنها تملك حق إدارة المكان لأن الشارع العام هو أحد مرافق الدولة، وبالتالي فإن عقد إيجار سلاح المظلات باطل، وقدمت شكوى في مواجهة المواطن أمام محكمة النظام العام، فذهب المواطن إلى المسئولين في سلاح المظلات يطلب مساعدتهم في إيضاح اللبس، لكنهم وياللعجب تهربوا من واجهة المحلية، قائلين له بالحرف الواحد (تصرَّف مع ناس المحلية) ..!
عاد المواطن إلى إدارة الملحية واضطر – مكرهاً – إلى إبرام عقد إيجار لفترة خمس سنوات دفع منه إيجار عام كاملاً .. وهكذا ألغي التعاقد مع سلاح المظلات وتم استبداله بالتعاقد الجديد مع المحلية، باعتبارها – وبحسب القانون – المسئول الذي لا شريك له في إدارة المرافق العامة ..!
فهل انتهينا؟! .. كلا بالطبع .. كانت تلك فقط بداية الحكاية، حيث فوجئ المواطن المسكين فوجئ بشركة مسجلة وفقاً لقانون الشركات السوداني لسنة 1925م، ومكونة من شريكين أحدهما ضابط برتبة عقيد والآخر ضابط معاش (كلاهما من ضباط الجيش) حضر ممثلوها إلى مقر عمله وأبلغوه بأنهم – أي الشريكين .. أو الشركة .. أو بعض ضباط الجيش إن شئت ! – هم المسئولون عن المواقع التابعة للجيش، وبناء عليه فقد أصدروا أوامرهم بأن يدفع الرجل للجيش – أيضاً – مقابل إيجار المكان ..!
فكان بذلك أول مستاجر في التاريخ يجد نفسه ملزماً – وبموجب تنازع وتضارب قوانين بلاده – بأن يدفع إيجار نفس المكان (محل العقد) مرتين ..!

(أرشيف الكاتبة)

Exit mobile version