قبل سنوات أدركتني صلاة الجمعة في مسجد القوات المسلحة.. في تلك اللحظة كانت في الحلق غصة نحو الإنقاذ.. موجدتي الشخصية أن إحدى مليشيات الثورة قد نفذت غارة على مقر إقامتي وليس مسكني في شارع (٦١) بالعمارات.. ظفر أولئك الشباب بشخصي الضعيف، وتم اختطافي، واحتجازي بشكل غير مشروع- بالطبع- تعرضت إلى تعذيب دامٍ.. حين فرغت من صلاة الجماعة وجدت أمامي مسؤولا رفيعا جداً في الحكومة.. بذات الغضب والحنق سردت له ملخص مظلمتي.. السيد المسؤول فاجأني بسؤال استنكاري مفاده (لكن أنت عملت شنو؟).. ذاك السؤال أعاد لي الألم الذي غطته الأيام- لا شعوريا- كانت ذاكرتي تستعيد مظهر الجلاد الذي يحمل (سوطاً) ليهوي به على ظهري المثخن بالجراحات.
قبل يومين علق مصدر رسمي على حادثة ادّعاء المواطن أسعد التاي بأنه تعرض إلى ضرب وتعذيب داخل قنصلية السودان في مدينة جدة السعودية.. المصدر مضى منقباً في ماضي المواطن أسعد التاي، سارداً أنه هرب من الخدمة العسكرية، ومارس احتجاجا غير متعارف عليه داخل المؤسسة العسكرية مما أدى إلى فصله.. لست- هنا- في مقام تقييم ذلك السلوك الذي حدث في الماضي.. لكن السؤال حول استدعاء تلك الوقائع التأريخية.
في تقديري أن ذلك التعليق لم يكن موفقاً في هذا الوقت.. وزارة الخارجية تعاملت بمهنية مع اتهامات المواطن أسعد التاي، وأرسلت إلى جدة لجنة تحقيق من كفاءات دبلوماسية مسنودة بخبراء في الأمن والقانون.. اللجنة أنجزت مهمتها، ووضعت توصياتها بين يدي وزير الخارجية.. لهذا مثل هذه التصريحات تبدو كأنها قطع طريق أمام إنفاذ العدالة.
البعد الثاني أن إظهار المواطن أسعد التاي باعتباره صاحب إرث في الاحتجاج، ومواقف معارضة صاخبة، يظهره بمظهر المستضعف الذي تتربص به السلطة وتلاحقه عبر الحدود.. وللحقيقة أن التاي- نفسه- ومنذ الوهلة الأولى استبعد فرضية استهدافه باعتباره ناشطا سياسيا، وقال: إن من اعتدى عليه كان يجهل مواقفه السياسية المعارضة للحكومة.. هذا البيان من غير قصد ثبت بطولة سياسية للمواطن المعني، وأضاف بعدا سياسيا لقضية ذات ملامح عادية.. ولن يظهر ذلك الأمر- جلياً- إلا إذا تخيلت الحكومة (منشيتاً) صحفياً يقول الاعتداء على معارض سياسي داخل قنصلية السودان في جدة.
في تقديري مطلوب منا- جميعا- عدم التعليق على القضية إلى حين أن تقول لجنة التحقيق كلمتها.. الآن وبعد ذلك التعليق الرسمي وضعت الحكومة- نفسها- في مأزق، خاصة إذا جاء تقرير لجنة الخارجية بخلاصة تبريء المتهمين في حادثة قنصليتنا في جدة.. سيترسخ الإحساس الشعبي الذي يعبّر بعبارة المرحوم غلطان.