ونحن نشهد إبرام إعلان المبادئ المتعلق بسد النهضة والموقّع من رؤساء كلٍ من السودان ومصر وأثيوبيا، لا نملك إلا أن نعبِّر عن فرح غامر أن تحتضن الخرطوم ذلك الإنجاز التاريخي الذي أنهى نزاعاً في طور التخلُّق كان من الممكن أن يفجِّر حرباً لا تبقي ولا تذر.
لا نملك إلا أن نهنئ الرئيس البشير على جمع مصر وأثيوبيا في الخرطوم التي يتعين علينا أن نبعد الخصومات السياسية لنفتخر أنها قامت من جديد بدور لطالما انتظرناه بعد أن غاب عنا عقودًا من الزمان، فقد تذكرنا الآن أياماً غابرة كنا نقوم فيها بدور الأخ الأكبر بين العرب جميعاً وبين الأفارقة جميعاً، وهل ننسى تلك الصورة المحفورة في ذاكرتنا حين كان رئيس وزرائنا محمد أحمد محجوب يقف في عزة وكبرياء بعد توقيع قمة اللاءات الثلاثة أمام الملوك والرؤساء العرب الفيصل وعبد الناصر والملك حسين وهم جلوس وكأنه يحاضرهم بلسانه الذرب الذي لطالما هز قاعات الأمم المتحدة بالنيابة عن العرب جميعاً وليس السودان؟
زرت القاهرة عدة مرات خلال السنوات الأخيرة، وكنت قريباً من نبض الشارع المصري الذي انشغل بقضية سد النهضة بصورة مدهشة عكست لي درجة الحساسية المفرطة لدى الشعب المصري إزاء كل ما يتعلق بنهر النيل المركوز في نفسية ذلك الشعب بنفس درجة الانتماء لمصر، وهل من شعب مفطور على حب بلاده كالشعب المصري؟.
ذلك الانتماء الوطني العميق هو أكثر ما تعول عليه مصر في الحفاظ على كيان الدولة من أن ينهار مهما عظمت التحديات وتفاقمت المحن، فمصر بحضارتها الضاربة في أعماق التاريخ هي التي بنت ذلك الشعور الوطني في شعبها المتيَّم بحبها بعيداً عن الانتماءات الصغيرة الأخرى التي تمسك بخناق السودان بتعدد ولاءات شعبه المتنازع بين تلك الولاءات.
صحيح أن السودان بلد حديث التكوين، ولذلك لا غرو أن تنعدم في شعبه أو تنقصه الروح الوطنية ويلوذ الناس بقبائلهم وانتماءاتهم الصغيرة وتغيب الهوية المشتركة التي تجمع أفراد الشعب جراء عدم اضطراد تطور تلك الهوية والرابطة الوطنية في نفوس الأفراد بسبب الاضطراب السياسي الذي أحيا العصبيات ومزَّق الناس إرباً وجعلهم ينكفئون إلى قبائلهم باعتبارها السبيل الوحيد لحمايتهم من تعدي القبائل الأخرى فيا لها من ردة تسبب فيها ضعف هيبة الدولة وعجز أجهزتها عن حماية الناس الذين انزلقوا في حروب داحس والغبراء من جديد وأسالوا دماء بعضهم بعضاً وكأنهم لم يقرأوا آيات الله تحذر وتنذر وترعد وتبرق (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).
قفزت من مناسبة سد النهضة الذي أسعدنا أن تجمع الخرطوم بين أطرافه لتعقد مصالحة إستراتيجية وتاريخية تتعلق بالنيل الأزرق الذي يرفد نهر النيل بحوالى 86% من مياهه فهلاّ سعت الحكومة بذات القدر والجهد لإبرام مصالحة بين مكونات المجتمع السوداني وأعني تحديداً مصالحة سياسية مع الأحزاب والحركات المسلحة ثم بين القبائل المتنازعة؟.
أقسم بالله أن ما يُصرف على الانتخابات لو وُفر ليصرف جزء منه في الترضيات والمصالحات القبلية والسياسية مع تقديم بعض التنازلات لحملة السلاح ولأحزاب المعارضة لعمَّ السلام السودان ولدخل مرحلة سياسية جديدة تشبه ما يجري في دول أخرى كثيرة انطلقت لا تلوي على شيء إلى الأمام في دروب النهضة والتقدم، فالبشير الذي كان له الفضل الأكبر في إنجاز إعلان سد النهضة بإمكانه هو وحده ولا أحد غيره لو توكَّل على الله واستخاره سبحانه بعيداً عمن يسوّقون له خيارات أخرى.. أقول بإمكانه أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، فوالله إننا لا نريد للسودان وله شخصياً، ونحن الأقرب إليه، إلا أن يكون في مكان يليق به بين الأمم فهلا فعلها؟