ربما.. لم يدرك كثير من السودانيين والمصريين أهمية توقيع اتفاق (سدّ النهضة) أمس.. ليس على مستوى العامة بل حتى المراقبين المختصين.
لفت نظري في كثير من التحليلات التي استمعت إليها، أو شاهدتها، أو قرأتها، خلال الأيام الماضية.. وبعد توقيع الاتفاق في القصر الجمهوري أمس- لفت نظري التركيز وحصر الاتفاق في حدود موضوع (سدّ النهضة)، وهذه نظرة أكثر من ضيقة.
هذا أول اتفاق (ثلاثي) بين السودان، وأثيوبيا، ومصر.. وهو مجرد اتفاق إطاري يرسي بعض المبادئ في العلاقات البينية بين الدول الثلاث، لكن أهميته الحقيقية أنه يصلح منصة انطلاق نحو تكامل اقتصادي إقليمي حقيقي وفاعل.. يبدأ ثلاثياً.. ويتمدد ليضم جنوب السودان، وأريتريا، في مرحلة لاحقة..
هذا المثلث.. مثلث (السودان، أثيوبيا، مصر) له بعد تأريخي عميق وثري بالمنافع المتبادلة.. في هذا المثلث نشأت أعظم الحضارات التي (تكاملت)، وأثرت البشرية.. وظلت الارتباطات التأريخية حتى في أوقات الحروب القاسية..
الآن.. صلة الجغرافيا تعيد صلات التأريخ.. فالماء الذي يتدفق من الهضبة الأثيوبية يسير كالدماء في الشرايين، ليغذي مصر، مروراً بالسودان.. وهو عنصر حياة وحضارة لا يمكن الاستغناء عنه.
وبكل أسف في السنوات الماضية توترت العلاقات بين الدول الثلاث- بالتحديد- بين مصر- من جهة- والدولتين الأخريين- من جهة ثانية- والسبب أزمة (سدّ النهضة).. وكان أسوأ أوجه هذا التوتر أنها تحولت إلى قضية (سياسيّة) بامتياز- بالتحديد- في مصر.. إذ أن الصراعات السياسيّة الداخلية المصريّة جعلت من قضية (سدّ النهضة) أداة صارخة في الملعب السياسيّ.. ووصل الأمر من السوء أن استغل البعض الأمر لقرع طبول الحرب.. كأنما الحرب مجرد عصاة سهلة لضرب الآخرين، سرعان ما يمكن رميها، والمضي في الطريق.
لكن- الآن- الأمر تحول من “نقمة” إلى “نعمة”.. نعمة إدراك الحاجة الماسة إلى بداية مرحلة تعاون إستراتيجيّ بين الدول الثلاث.. هذا التعاون سيكون أيسر ما فيه هو قضية سد النهضة.
تمنيت لو أن الدول الثلاث انتهزت احتفالية توقيع اتفاق سد النهضة لتضع بذرة سوق مشتركة.. لا يهم تفاصيلها في الوقت الراهن بقدر ما يهم رسم صيغة (أفريقية) جديدة للمستقبل.. لأنها نسخة يسهل تكرارها في أقاليم أفريقية أخرى، هي في أمس الحاجة إلى ابتدار عهد جديد من التعاون، يتخطى كل مرارات الماضي الأليم.
سدّ النهضة سيصبح فعلاً (نهضة) إقليمية إذا أكملت الدول الثلاث وضع إطار ذكي للمستقبل.